ذات شتاء من كام سنة وأنا فى مرحلة المراهقة جئت من دمياط موطنى الأصلى لزيارة إحدى قريباتى بالإسكندرية، كنا فى أواخر ثمانينيات القرن الماضى، كانت تلك الزيارة كفيلة بتحويل دفة حياتى كاملة، لقد وقعت أسيرة لتلك المدينة الفاتنة، كان يوم شتاء قارس والأمطار تسقط بغزارة ورغم سقوطها فإن الشوارع تبرق مع شعاع الشمس البسيط، وكأنها طبق من البلور النادر، السيارات تسير فى الشوارع بنعومة، أمواج البحر المتلاطمة عالياً سجنتنى فى عشق المدينة اليونانية الرومانية الإسلامية.
والغيام الناعم يطل على البيوت العتيقة من عمارات لا يتعدى ارتفاعها ثمانية طوابق «ما كان فى ثمانينيات القرن»، على الكورنيش والفيللات التى لم أرها إلا فى السينما فى أفلام الأبيض والأسود شىء من وراء العقل ولا أروع، دخلت على مضيفتى لأجد شوربة العدس وكبيبة السبيط التى لم أتذوقها من قبل، فأنا أعرف كبيبة الجمبرى واللحم، أما هذه فلم أسمع بها من قبل، لأعرف منها أنها أحد مفردات الشتاء الإسكندرانى مع يخن الجمبرى.
ورغم أن دمياط محافظة ساحلية مثلها مثل الإسكندرية، إلا أن الشتاء بها غير فلا هى ذات كورنيش مبهر مثل الإسكندرية ولا شوارع مرصوفة بهذا الإتقان، ولا مبانى أثرية ذات حضارة عريقة، ولا هذا السحر، فقط عندما يريد الدمياطى الاستمتاع بالبحر عليه أن يركب ساعتين للوصول لمدينة رأس البر، حيث التقاء البحر المتوسط مع النيل، وعلى أيامى كانت مدينة خاوية من المبانى اللهم إلا العشش والحصير لأنها مدينة صيفية أما فى الشتاء وكان غالبيتها يسكنها الأشباح وكأنك نزلت فى كوكب آخر.
منذ تلك الزيارة وأنا اتخذت فى قرارة نفسى قرارًا أن أكمل حياتى فى تلك المدينة النادرة الإسكندرية.
ومرت الأيام والسنون، وأنا أتمتع بالإسكندرية فى الشتاء نعم فى الشتاء، أما فى الصيف فهى ليست لا لأهلها ولا حتى ضيوفها ترتدى ثوبًا آخر من الزحام وأشكال البشر الذين لا يشبهون أهلها شكلاً وسلوكًا ولا حتى شكل محبيها.
وذات يوم فى بداية عملى بمجلة «صباح الخير» ذهبت لإجراء حوار مع الأديب يوسف عز الدين عيسى، وكان ذلك الرجل أستاذًا بكلية العلوم لكنه كان أديبًا كبيرًا أثرى المكتبة الثقافية والإذاعية والتليفزيونية بروائع القصص وكانت غالبية أعماله تحول لمسلسلات إذاعية وتليفزيونية أيام الأبيض والأسود، استقبلنى الرجل بحفاوة شديدة وسألته عندما عرفت أنه غير سكندرى الأصل لماذا لم تستقر بالقاهرة طالما أن عملك الأدبى تحول لأعمال فى نور العاصمة القاهرة، وكان يسهل عليك أن تنقل عملك الأكاديمى بها، فأجابنى أنه كان فى سفرية لأوروبا وكيف أنه كان يتمتع بالشتاء والنظافة التى تحيط بشوارعها هناك ولما جاء فى زيارة للإسكندرية كان يوم شتاء قارس وأمطار وعواصف رعدية «نفس اللى حصل معى» لكن كان يسبقنى، المهم ظل الأديب يسهب فى وصف المدينة وهى تغتسل وتتحول أمطارها كلآلئ فى طبق بنور والشوارع واسعة والأشجار على الكورنيش ورائحة البحر تسكر المارة فيتسمرون تحت الأمطار، وغالبية المدينة من الأجانب يونانيين على إيطاليين، سيدات فى ملابس أنيقة ووجوه تفرح ورجال بأبهى حلة شتوية من يومها وهو قد وجد ضالته فى المكان الذى سكن قلبه وعلق وقرر أن يقيم فيه ويكتب ويبدع وينزل للقاهرة لبيع أعماله من وقت للآخر، هكذا تحول مصير الأديب يوسف عز الدين عيسى صاحب العسل المر والقط الأسود بسبب زيارة فى يوم شتاء فى ستينيات القرن الماضى للإسكندرية.
نوات إسكندرية
مرت الأيام وذات يوم فى حوار مع مدير فندق السلاملك زمان وسيم محيى الدين، عن الفندق وهل يأتى زائرون الفندق فى الشتاء كما يأتون فى الصيف، فكان رده وقتها، ومازلت أردده أن الفندق غالبًا كامل العدد فى الشتاء أكثر من الصيف، خاصة أن ذلك الفندق ذو طبيعية عبقرية خاصة جمعت المكان فى قلب الحدائق النادرة التاريخية والبحر وقصر الحرملك أمامه، وخصوصية المكان حتى إن الشيخ صالح كامل صاحب شبكات «art» وكانت وقتها تلك الشبكة هى الوحيدة تقريبًا فى منتصف تسعينيات القرن الماضى وفى عز أوجها، كان لديه جدول بنوات الإسكندرية فيخصص له ولأسرته على الأقل، ثلاث زيارات فى ثلاث نوات حتى يأتى ويقيم فى أطولها أياما للاستمتاع بالمطر وهو يتساقط فيغسل الأشجار والأرض، كأن شيئًا لم ينزل عليها فقط تجد بريق المياه كأنها انعكاس مرآة على الأرض وحتى يستمتع بصوت المطر على زجاج الحجرة وغيامها وصوت البحر عاليًا، وأصوات البرق والرعد ليلاً فتنير سماء المنتزه ولا أروع، ولما سألته يعنى الشيخ صالح لا يستطيع الذهاب للندن أو باريس، أو سويسرا للاستمتاع بشتائها بدلاً من المجىء للإسكندرية؟ فكانت الإجابة أن الإسكندرية فى الشتاء غير عبق الجمال والشكل وتشكيل المدينة، بالإضافة للصحبة من المعارف الإسكندرانية والأهم اللغة فالحديث باللغة التى تنطقها فى مكان نادر يعطى شعورا آخر ، وذات يوم كان الشيخ صالح كامل وزوجته الثانية صفاء أبوالسعود وأولادها وكانوا مازالوا صغارًا ومعها شقيقتها بالسلاملك بالشتاء قد عانى مدير الفندق لأراهم بنفسى ووقتها تحدثت إلى صفاء أبوالسعود أسألها عما حدثنى فيها وسيم من ولع الشيخ صالح كامل بالإسكندرية شتاء وليس بالصيف ، فقالت فعلا نحن لا نأتى الإسكندرية بالصيف فهى مزدحمة ورطوبة وغير مغرية نحن نذهب لأوروبا أما فى الشتاء فهى ولا أروع ، وهنا عدد كبير من العائلات الثرية السعودية وبعض الأمراء لا يفضلون الإسكندرية إلا فى الشتا مثلنا ، حقا هى لم تبالغ عندما قالت إن الإسكندرية فى الشتاء سحر ولا أروع وهى غير ، فالدكتور أحمد زويل منذ منتصف تسعينيات القرن الماضى وحتى غلق السلاملك فى 2013 كان لا يأتى إلا فى الشتاء للإسكندرية بالسلاملك ، صحيح كان يأتى بالصيف ولكن آخر (7) سنوات قبل غلق الفندق كان يذهب لمارينا ولكن بالشتاء كان عشقه للمدينة وتنقل ما بين فندق فلسطين حيث سحر المدينة المختبئ تحت الأمواج وبين السلاملك، وكان يرتدى البالطو الأسود فى الأمطار المنهمرة ويصطحبه صديقاه اللورد يشار حلمى والزميل أحمد المسلمانى ويتجولون داخل حدائق قصر المنتزه فى الأمطار ولما كان يتعب اللورد يشار حلمى كان الدكتور زويل يهدده إذا لم يكمل المشى معه تحت المطر سيسافر ولأن الدكتور زويل، يعلم مدى حب يشار له بالياء وليس بالباء، فقد كان يتحامل على نفسه ويظل يسير معه تحت المطر، كذلك نجوم الفن الجميل وأكثرهم مجيئا بالشتاء للإسكندرية المرحوم نور الشريف، وإلهام شاهين مع شلة أقاربها وأصدقائها.. وكان المرحوم فريد شوقى متيمًا بالإسكندرية فى الشتاء عنها فى الصيف.
ما سر السحر؟ تعالى وجرب
لماذا الإسكندرية فى الشتاء؟ لها سحر خاص لا يمكن تفسيره وكل هذا وأنا أتحدث عن الإسكندرية قبل ستة أعوام نعم فهى من قبل ثورة يناير وقد بدأت تتغير فى الملامح والمعالم وكأنها دخلت فى طور الشيخوخة بأيدى أبنائها والطامعين والازدحام حتى جاءت ثورة يناير وبدأ المقاولون وبعض المواطنين فى هدم العمارات سواء على الكورنيش أو داخل المدينة ويتطاولون فى البناء حتى عشرين طابقا، وأصبح لا يوجد على الكورنيش سوى فيلا قنصلية إيطاليا أمام سعد زغلول على البحر وفيلا قنصلية فرنسا عند الجندى المجهول بالمنشية حتى هاتين القنصلتين اللتين كانتا نموذجًا للعمارة الفريدة أجرتا المكانين تخيلوا البنك استثمارى وضع لافتاته حول كل مكان حتى القبح النظرى فيها، وأصبحت كل المناطق مقاهى وكافيهات (برندات) من الخارج تتسابق فى عمل أعظم ديكور من أجل جذب الزبون (الريتش) الغنى، وممشى البحر تحول مقاهى درجة ثالثة مؤجرة من قبل محافظة الإسكندرية.
المشى على الكورنيش شتاء
كانت هوايتى طوال أشهر السنة ما عدا شهرى يوليو وأغسطس ممارسة رياضة الجرى على البحر وكانت تلك الرياضة تمكننى من التأمل والاسترخاء والاستمتاع بالهواء النقى الخارج من قلب المياه لى، وبعد إنجابى مكثت كل هذه السنوات أمارس رياضتى على جهاز صناعى داخل البيت حتى أصبت بالاكتئاب من شوقى للمشى وحدى على البحر ساعات أتأمل وأفكر، حتى كان منذ شهر دعتنى صديقة للجلوس على أحد المقاهى التى تم بناؤها فى البحر لأجد الإسكندرية، وقد اختلفت فى الثمانية أعوام قلبا وقالبا لا هى التى ضحيت بمستقبلى المهنى من أجل عيونها عندما جاءتنى فرص كثيرة للعمل الدائم فى الميديا المرئية والبقاء بعيدا عنها ولا هى التى كانت قد أسرتنى وأنا مراهقة ، شىء لا أعرفه أين يونان ولندن وفرنسا وسويسرا مضروبين فى بعض ؟ لم تعد هى أين لذة ساندوتش الفول من محمد أحمد ونطلع نحبس بواحد بليلة من صابر فى الإبراهيمية وواحد كاكا من خاموس اليونانى ونجرى على بحرى نضرب جندفلى وبساريا ونحلى من عزة بأرز بلبن مفيش، الزحام والعشوائية وحتى البشر غير لا المكان أصبح هو المكان ولا البشر أصبحوا هم البشر حتى البحث عن نكهة الذهاب للسينما فى الشتاء القارس والخروج من السينما مشيا على الأقدام حتى البيت راحت وضاعت لأن ببساطة الشوارع ازدحمت وامتلأت بمن لا يتركونك وخصوصيتك، إسكندرية التى كانت خاموس وسانتا لوتشيا وبستردوس وكالا أصبحت اللقمة الشامية والشيخ الشامى وكله شامى على صعيدى فين ملك السمان فى سوق العطارين ولا لب طرطوسية ولا بقالة عنيو؟ أصبح تاريخ ، فين أكشاك الجرائد فى محطة الرمل وواحد شاى سخن من المحطة مفيش غير فى الذاكرة حتى منصة ركوب السيارة ليلا والمدينة تمطر مع زحام البشر, أصبح العيش أو حتى استراق لحظة من الماضى مستحيل يا خسارة راهنت على ثوابت المدينة التى لا تتغير حتى أنعم بالعيش فى سويسرا الشرق لكنها خذلتنى لم تصمد أمام جنون البشر وعشوائية التغيير فلا أنا أنا ولا هى هى.
شهيرة النجار