نشرت بالحلقة الخامسة نبذة عن داود العلي لكنّ امدني أحد الأصدقاء بسيرته كاملة
نفردها بهذه الحلقة
كانت لقرية البصة قبل سنة 1948 سمعة جيدة, وقد أنصفها بعض الذين عاشوا فيها من غير سكانها بتسميتها “عروس الجليل”.
وتعود شهرة قرية البصة بين أخواتها من القرى الفلسطينية التي تّم تهديمها وتشريد أهاليها الى نوعية سكانها الطيبين من مسلمين ومسيحيين وتعايشهم السلمي ومستواهم الثقافي وحبهم لقريتهم حتى بعد مرور أكثر من نصف قرن على نكبتهم. وتجدر الإشارة إلى أن الأكثرية الساحقة من سكان البصة تعيش قسرا في الشتات في أمريكا الشمالية والجنوبية وأوروبا وأستراليا وفي سوريا وفي لبنان الجار الذي كانت البصة جزءا منه حتى 1925 عندما ضمتها حكومة الانتداب البريطانية الى فلسطين.
لقد أنجبت قرية البصة الكثيرين ممن تفوقوا في العلوم الأكاديمية والفنون وأصبحت نسبة الجامعيين بينهم عالية نسبياً, كما وأن هناك كثيرين تفوقوا ونجحوا في تأسيس شركات انشائية وأعمال تجارية في لبنان وغيره.
ومن هؤلاء الذين شقوا طريقهم الوعرة رغم التشرد والحرمان السيد داوود العلي المولود في قرية البصة والمقيم حالياً في مدينة صيدا, جنوب لبنان. لقد لجأ داوود العلي مع والديه وبقية أفراد عائلته إلى لبنان سنة 1948, وكان آنذاك صبيا في نحو العاشرة من عمره. التحق باحدى مدارس وكالة الأمم المتحدة للاغاثة “الأونروا” في مدينة صور وحصل على الشهادة الابتدائية منها.
ثم التحق بواسطة الأونروا بمدرسة الأب قرطباوي المهنية, ولم يكن قادراً بعد ذلك حتى من الالتحاق بمدارس الأونروا لانهاء دراسته الثانوية, لذا اضطر للعمل في الورش الكهربائية في لبنان. وبعد ممارسة هذه المهنة لبضعة أشهر سنحت الفرصة أمام داوود العلي لأول مرة للسفر الى قطر للعمل هناك كمهني كهربائي مع شركة “الكات” اللبنانية.
وبعد مرور شهرين فقط على عمله هناك قرّر العودة الى بيروت. وخلال هذه الفترة التقى داوود العلي بشريكة حياته الآنسة رايقة بلشي, ابنة خالته, وهو في سن الثامنة عشرة فأحبها وبادلته نفس الحب وتزوجا. لقد اضطّر إلى العمل أحياناً كعامل في بساتين صور وصيدا عندما لا يجد عملا في الورش الكهربائية, لكي يعيل زوجته وأولاده الصغار.
وتمر الأيام ويقرر داوود أن يفتح متجراً في مدينة صور لبيع الأدوات الكهربائية الخفيفة حيث بدأ بتصليح المكاوي الكهربائية والراديوات. وكان طموحا جداً فاشترى تراكتورا وسيارة خاصة بالتقسيط, ووقع بذلك تحت دين بحوالي عشرين ألف ليرة لبنانية. ساءت أحوال داوود المالية وخسر التراكتور والسيارة الخاصة والمتجر معا. وانتقل بعد هذه النكسة الى بيروت وعمل لدى شركة شاكو للتجارة كمدير مبيعات للأدوات الكهربائية وأفران الغاز والمراوح وغيرها.
وتحسنت بذلك أوضاعه المالية, فسدد ديونه المتراكمة من خسارته في مدينة صور. وكان ذلك عام 1968 .
وفي مطلع عام 1969 كان يعمل ست عشرة ساعة يومياً فاشترى قطعة أرض في بلدة الناعمة لكي يبني عليها بيتا لنفسه ولاخوته الثلاثة. وما أن بدأ بالبناء حتى جاءه أناس يريدون شراء شقة, فباع الأولى والثانية والثالثة.
فكانت هذه الصفقة بداية نجاحاته العملية. لقد تدرج من بناء بناية إلى بناء مدرسة في الناعمة, وأصبحت أحواله المادية تتحسن باستمرار إلى أن بدأت الحرب الأهلية في لبنان سنة 1976 . وفي سنة 1982 أجبره الإحتلال الإسرائيلي لبيروت وجنوب لبنان على مغادرة لبنان والسفر إلى الرياض في السعودية, حيث عمل في البناء, وبعد أقل من سنتين واثر انسحاب الجيش الإسرائيلي من صيدا عاد إلى المدينة وأحواله المادية جيدة جداً. وكان قد أسس سنة 1977 شركة سماها شركة داوود العلي للتجارة “اليكو” وأخذ يبني البنايات في مدينة صيدا وضواحيها وخاصة في وادي الزينة, والتي أصبح اسمها فيما بعد منطقة داوود العلي, لأنه بنى هناك أكثر من مائة بناية ومدرسة من خمسة طوابق تستوعب ألف تلميذ كما بنى جامعا في نفس المنطقة, لذا أصبحت هذه الناحية مدينة جديدة بحد ذاتها.
وهكذا شق داوود العلي طريقه إلى النجاح بحيث أصبحت شركته من أكبر الشركات الإنشائية والتجارية في لبنان, وبالإضافة إلى أعمال البناء وبيع الشقق بالتقسيط, هناك قسم هام لاستيراد الأدوات الكهربائية المنزلية من الصين والهند وإيطاليا واسبانيا وماليزيا وتركيا واليونان.
لقد أنجب داوود العلي تسعة من البنين والبنات وهم: الدكتور زياد والدكتور ناصر والمجاز في ادارة الأعمال واصف, والمهندس أحمد والمهندس علي وجميعهم تخرجوا من جامعة كولومبوس في ولاية أوهايو – الولايات المتحدة الأمريكية. أما البنات فهن: فاطمة ومنى تخصصن في ادارة الأعمال وفاديا بكالوريوس, ورشا خريجة الجامعة العربية وجميعهن متزوجات.
كثيرون هم الذين يحبون مسقط رأسهم قرية البصة أو غيرها, ولكن قليلون هم الذين يعبرون عن هذا الحب بشتى وسائل الإعلام المتاحة, ويقدمون المساعدات الإنسانية للمحتاجين. أن إعلانات شركة داوود العلي للتجارة “اليكو” تحكي قصة البصة: تاريخها وحدودها وثرواتها وممتلكاتها.
كما وأن السيد داوود العلي طبع كتابا عن البصة وتّم توزيعه مجاناً. وقد طلب مني آنذاك أن أزوده ببعض الصور الفوتوغرافية من أرشيف البصة الوثائقي.
كما أنه ألّف أغنيتين تحكي الأولى قصة المعاناة النفسية التي يعيشها الشعب الفلسطيني بعد نكبة 1948 , أما الثانية, فهي بمناسبة زواج ابنته الصغرى رشا. أما الألحان والغناء فللأستاذ محمد الآغا, والتوزيع مجاناً.
لم ينس داوود العلي أن نكبة الشعب الفلسطيني سنة 1948 حالت دون تطلعاته إلى اكمال دراسته, لذا فهو يحرص على أن يقدم المنح الدراسية للطلاب الفلسطينيين في المرحلة الثانوية كما أنه يقدم الرواتب الشهرية إلى بعض البصيين لتحسين أوضاعهم المعيشية, كما يقدم أيضاً المساعدات المالية لبعض العائلات المستورة, خاصة خلال الحالة الإقتصادية الخانقة حالياً في لبنان.
وهو يساهم بدفع فواتير بعض العمليات الجراحية للمحتاجين الذين لا طاقة لهم عليها.
ولا يزال داوود العلي عضوا فعالاً في رابطة أبناء البصة وأصدقائهم في جنوب لبنان ومن أشد الداعين للحفاظ على الالفة والمحبة بين أهالي البصة في الجنوب اللبناني وفي كل مكان.
أن دلت سيرة حياة داوود العلي على شئ, فإنما تدل على أن كل فلسطيني سواء كان من البصة أو غيرها, قد مّر في ظروف معيشية صعبة بعد نكبة 1948 , لكن كثيرين هم أيضاً من أمثال داوود العلي الذين نجحوا في حياتهم العملية والعائلية, وكانوا نموذجا لاخوتهم في الشتات وفي الداخل, لذا يمكن وصفهم بالمميزين من البصة
شهيرة النجار