وأنا أمر من شارع فؤاد العريق الشهير بالإسكندرية ذلك الشارع الذي كان يطلق عليه شارع المحافظة
نظرا لوجود مبني محافظة الإسكندرية العريق به واحترق وتهدم مع ثورة يناير كما سبق وكتبت في مقال الأمس في باب التحقيقات
إذا بي أجد الأرض التي تخلفت من حريق وتهدم المبني العريق والتي ظلت موقف سيارات لمده 12 عاماً هي عمر غياب وتهدم المبني الجميل
إذا بي أري البناء فيها حالياً مرةً آخري
لا أعرف الحقيقة هل سيتم بناء مبني جديد؟
أم مبني مطابق للمبني الذي احترق ؟
كل الذي أعرفه إن اللي راح مش راجع تاني
تعالوا معا نعرف قصة مبني محافظة الإسكندرية الذي أصبح ذكري تحتضن عقول وقلوب كل من عاصروه ولهم فيه ذكريات وحكايات وقطع من أعمارهم لن تنسي
وشهد أحداث مدينة أبهرت الدنيا كلها
وكان أيقونة قبل ان يكون مبني إداري تدار المحافظة العريقة من خلاله
مع الضباط الاحرار
في السنين الأولى من حكم “الضباط الأحرار” لم تكن هناك غضاضة من استمرار كل مؤسسات الدولة على ما كانت عليه قبل الثورة. تغير ذلك السلوك كثيراً بعد ذلك بسنوات قليلة، بعد ثورة يوليو ظل مقر بلدية الإسكندرية أو المجلس البلدي يشغل نفس المبنى الذي ظل يشغله منذ أواخر القرن التاسع عشر بشارع فؤاد (طريق الحرية). لكن احتياجات البلدية كانت تزيد مما استلزم التوسع، في كتيب “بلدية الإسكندرية في عهد الثورة” نقرأ هذه السطور:
وأصبح هذا المبنى قاصراً عن أن يفي بالغرض منه بسبب التوسع المستمر في أقسام البلدية لمجابهة الخدمات العمرانية المتزايدة علاوة على قدم المبنى وحاجته المستمرة إلى الترميم والإصلاح مما كان يحمل البلدية أعباء مالية سنوية متزايدة خصوصاً إذا لوحظ أن سقفه العلوي كان بحالة سيئة للغاية تستدعي سرعة تغييره، و كان يصرف على إصلاحه مبالغ كبيرة كل عام.
ونظرا لأن موارد البلدية كانت قاصرة عن إنشاء مبنى جديد يضم أقسام البلدية فقد قرر المجلس البلدي في أوائل عام 1954 إصلاح المبنى وترميمه وتجميله وإنشاء دور ثالث علوي جديد فوقه وقد تم ذلك المشروع في عام 1957 وبلغ ما صرف عليه مبلغ 55000 جنيه.
بهذا المبلغ، وبدون أن يُهدَم المبنى القديم، تحول مبنى البلدية إلى مبنىً حداثي modern ذي خطوط بسيطة أضفت عليه انطباعاً رسميا أنيقا، وجاء منحدر السيارات الجديد المؤدي إلى المدخل الرئيسي ليكمل هذا الانطباع الذي جاء مناسباً جدا، في رأيي، مع حداثة ورؤية الدولة المصرية الناشئة في هذا الوقت. أغلب الظن أن المعماري فؤاد عبد المجيد، مراقب المباني والأعمال البحرية آنذاك، هو من قام بتصميم هذه الإضافات.
لطابق الذي أضيف للمبنى ضم قاعة ضخمة للاجتماعات كسيت جدرانها بالخشب ذي الزخارف الكلاسيكية (انظر الصور)، وضم أيضاً قاعة مكتب المحافظ الفسيحة والقاعات والأروقة الجانبية المحيطة بها.
وحملت واجهة المبنى نحتا بارزا دقيق الصنع لشعار مدينة الإسكندرية العريق، والذي تقف فيه “إيزيس فاريا”، حامية الملاحين، فى مقدمة سفينة تحمل البردية التي دونت عليها الإسكندرية أسرار العلم والحكمة على مر العصور، وخلفها يقف فنار الإسكندرية القديم، أحد عجائب الدنيا القديمة.
شعار مدينة الإسكندرية
وفي عام 1960 صدر قانون الإدارة المحلية، وأصبحت “بلدية الإسكندرية” بعدها بقليل “محافظة الإسكندرية”، واحدة من 24 محافظة شكلت ما أصبحت تسمى وقتها “جمهورية مصر العربية”
وتعاقب على مبنى محافظة الإسكندرية منذ تطويره بعد ثورة يوليو 16 محافظا، كان منهم من أضاف للمدينة ومنهم من أساء إليها ومنهم من لم يترك أي بصمة تذكر. أولهم كان محمد مصطفى الديب (1952-1957) وآخرهم عادل علي لبيب (2006-2011).
- مشهد النهاية
لكل ثورة أخطاؤها. علينا أن نعترف بذلك.
مشهد النهاية لمبنى المحافظة كان أحد هذه الأخطاء.
لم يكن هناك ما ينذر بما سيحدث مع الشرارة الأولى للثورة. يوم الخامس والعشرين من يناير اشتعلت التظاهرات أمام المبنى، رمز النظام الحاكم في المدينة. ردد المتظاهرون الهتافات الغاضبة أثناء مرور مسيراتهم أمامه. لم تحدث أي مواجهات، ومر الأمر بسلام. لكن الأمور اختلفت تماماً يوم الثامن والعشرين
لن تنسى مصر أبدا يوم الثامن و العشرين من يناير 2011. جمعة الغضب. يوم امتلأت الشوارع بالغاضبين من كل فئات وطبقات المجتمع في كل مدن مصر تقريباً. في الإسكندرية، ما أن ختم المصلون صلاة الجمعة بمسجد القائد ابراهيم حتى بادرت قوات الأمن المتربص بالهجوم بكل وحشية وبلا أي مقدمات. في الوقت الذي قُطعت فيه كل وسائل الاتصال في سابقة من نوعها. تساقط العُزل اختناقا أو رميا بالرصاص. تعددت الأسباب… وتحولت الإسكندرية إلى ساحة حرب حقيقية. وأمام الدم والصرخات والدموع والطلقات الحية والاتصالات المقطوعة أصبح الغضب أضعافاً. ساعات وكان السقوط المدوي للأمن بكل جبروته وتسليحه أمام الغاضبين.
بقى الغضب عارما، فبحث الغاضبون عن هدف ينفثون فيه هذا الغضب، ومع الاختفاء التام للأمن بكل أشكاله، بدأ الهجوم على مقار الشرطة والحكومة والحزب الحاكم. في مثل هذه اللحظات تتحول الجدران إلى رموز، وتصبح الأبنية التي ارتبطت بنظام ظالم أصناما يستوجب تحطيمها.
وهنا كان الخطأ.
تحول التظاهر حول مبنى المحافظة يوم الثامن والعشرين إلى هجوم جماعي تروي تفاصيله بعض الصور وبعض لقطات الفيديو على “يوتيوب”. تمكنت الأعداد الكبيرة من اقتحامه، وانطلق الغاضبون بين المكاتب والقاعات يبحثون عن صور مبارك (وما أكثرها!) ورموز حكمه ليحطموها ويشعلوا النيران فيها. لكن من الواضح أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فمع الثوار الغاضبين وجدها آخرون فرصة سانحة للنهب والتخريب، فألقوا الأوراق والمستندات من النوافذ، ونهبوا ما خف حمله من أثاث وتُحف، قبل أن يضرموا النيران فيما تبقى.
من الواضح أن المبنى الأصلي الذي جرى تطويره وتعليته عام 1957 كانت أسقفه مصنوعة من الخشب، بينما كان التطوير معتمدا بشكل اساسي على إضافة غلاف خارجي من الخرسانة المسلحة، لذلك أتت النيران على المبنى من الداخل بالكامل وانهارت كل طوابقه بينما ظلت واجهات الغلاف الخارجي صامدة لبعض الوقت، قبل أن تنهار هي الأخرى. و ربما زادت مياه الإطفاء (الذي تأخر كثيراً جداً) الطين بلة. واستمرت الأدخنة تتصاعد من المبنى لعدة أيام.
- أبعاد الكارثة
انهار المبنى، واختفى معه جزء كبير من تاريخ الإسكندرية، بعمارته وتصميمه الداخلي وأثاثه ومستنداته ووثائقه وكتبه. هل انتشل مقاول رفع الأنقاض أي من هذا؟
الحريق أسفر أيضاً عن “محرقة كبيرة” للتراث الفني الذي كان موجودًا بديوان المحافظة. كتب عنه الفنان الكبير عصمت داوستاشي في مقال له بالأهرام وصف فيه الخسائر:
قاعة ديوان عام المحافظة والتي تضم مجموعة من أهم لوحات رواد الفن المصري الحديث ومنها اللوحه الملحمية الكبيرة “مدرسة الإسكندرية” لرائد الفن المصري الحديث محمد ناجي (1888-1959)، ولضخامة اللوحة الجداريه لعل البلطجية مزقوها أو تركوها تحترق مع ما أحترق بالمبني الذي تحول إلي كوم من الركام (…) بدأ ناجي في رسمها عام 1939 وعرضها ببينالي فينسيا 1954 بعدعمله كمدير للأكاديمية المصرية للفنون بروما من 1947 إلى 1950. وقد احترقت أو نهبت معها لوحات هامه كانت علي جدران نفس القاعة عددها ثمانية وهي: لوحة “أعلام الإسكندرية” لسيف وانلي (1905-1979) والتي رسم فيها وجوه سيد درويش، زكريا أحمد، محمود سعيد، محمد ناجي، ورسم وجهه ووجه شقيقه أدهم وانلي (1908-1959) الذي كانت له لوحة جميلة تمثل كورنيش الإسكندرية وبائع الذره المشوية. واحترقت لوحة الفنانه الرائده مارجريت نخلة (1908-1977) لشاطئ ستانلي، ولوحة الرائد الكبير حسين بيكار ابن الإسكندرية (1913-2002) تمثل موسم الحصاد، ولوحة الفنان محمود حلمي (1916-1997) وهي لوحة تجريدية تمثل المدينة، ولوحة كامل مصطفي (1917-1982) لمنظر للريف المجاور للإسكندرية، ولوحة الفنان حامد عويس (1919-2011) وتمثل الفلاح في الحقل، ولوحة الفنان الشاب في ذلك الوقت محمد فؤاد تاج الدين (1933) ورسم فيها حواء سكندرية. كما احترقت وفقدت أعمال فنية لكثير من فناني الإسكندرية الرواد كان بعضها في حجرة المحافظ ومعظمها موزعه علي جدران المبني الداخلية وهي للفنانين محمود سعيد (1897-1964) سعد الخادم (1913-1987) وعفت ناجي (1905-1994) ومحمود موسي (1913-2003) وغيرهم. ومن الفنانين المعاصرين عبد السلام عيد ومحمد شاكر وأحمد خليل وكاتب هذه السطور (عصمت داوستاشي) وآخرين.. ومعظم هذه الأعمال من إهداء الفنانين للمحافظة لذلك لايوجد توثيق رسمي به.
والآن، بعد أن “راح اللي راح”، ماذا نفعل في أرض المبنى الخالية؟ هل نعيد بناء مبنى المحافظة كما كان؟ هل نقيم مبنى جديداً للمحافظة في نفس الموقع؟ أم في موقع آخر؟.
شهيرة النجار