يسكن الفورسيزونز بجسده وروحه ووجدانه مع البسطاء.
رغم ثرائه الكبير إلا أنه كان لا يجد لذته إلا وسط أبناء النادي بالمجان .. ويدفع من جيبه لمن يطلب.
كل العائلة عاشقة لكرة القدم أشهرهم شقيقه كابتن عامر حسين.
لن أقدمه للقارئ العزيز بصفته شقيق رجل شهير بالمجال الرياضي، ولكن الحقيقة أن الشقيق الرياضي الشهير هو الذي يُعرف به، وأعرفكم به كما نحب أن نناديه «الحاج حسن بركات»، رحل ذلك الرجل البشوش صاحب الابتسامة الدائمة، والأب الروحي لأطفال لعبة كرة القدم بنادي اسبورتنج وأيقونة النادي وخيره وبركته. حسن بركات -رحمه الله- رغم أنه شقيق كابتن عامر حسين رئيس لجنة المسابقات السابق ورئيس منطقة الإسكندرية ورئيس اللجنة الرياضية بنادي اسبورتنج حتى يناير الماضي، إلا أن «عامر حسين» شهير داخل النادي بأنه شقيق الحاج حسن بركات، ذلك الرجل الذى عشق النادي وقطاع كرة القدم للأطفال تحديداً، الذي تولاه ليس حباً في المنصب ولكن كان كل أمله النهوض والاهتمام بأطفال النادي الصغار من لاعبى كرة القدم، وكثيراً ما كان يتشاجر مع شقيقه كابتن عامر حسين بصفته رئيس اللجنة الرياضية لأنه يولى كبار لاعبى كرة القدم بالنادي ميزانيات واهتماماً أكبر من قطاع الصغار. كان «الحاج حسن» يجلس أمام الملاعب يومياً بعد العصر بالتريننج سوت يملأ جيوبه بالشيكولاتة وكل من يسلّم عليه يعطيه واحدة، ويظل جالساً متابعاً لجدول الملاعب والمدربين، حتى إن كبار مسئولي وأعضاء النادي عندما يعرفون مكان جلوسه يذهبون ليجلسوا إلى جواره صيفاً وشتاءً. ولم نره يوماً جالسا يتحدث في سيرة أحد، حتى إذا تصادف وفتح أحد الجالسين سيرة أحد ما لا يفعل شيئاً سوى أن يلزم الصمت ويأخذ كرسيه بعيداً قليلاً دون ضجيج. أيضاً من كان يريد أن يترشح على عضوية النادي أو رئاسته «لازم ياخد رضا وموافقة الحاج حسن بركات وأشقائه».. نعم، فالأشقاء الأحد عشر ولداً وبنتا ليسوا بالشيء الهين داخل أروقة نادى اسبورتنج، فآل بركات الحاج حسن وعامر ومعهم شقيقهما كابتن عصام بركات رئيس لجنة السباحة بالنادي عدة مرات واللجنة الرياضية سابقاً، ليسوا بالشيء الهين، وربما الأخير كابتن عصام معروف بحزمه وصراحته الشديدة ولا يخشى قول الحق في وجه أي شخص داخل النادي إذا كان مخطئاً، شفاه الله وعفاه، وله الابن الأكبر مسئول «الفتنس» للفريق الأول لكرة القدم بنادي دجلة وخريج بيزنس من إنجلترا.
أما آل بركات، فكان للحاج حسن بركات ابنه حسين عضواً بمجلس إدارة نادى اسبورتنج الدورة السابقة، ولما وجد أنه لا جدوى من التغيير للأفضل رفض خوض الانتخابات في المرة الأخيرة، رغم أنه لو حتى فكر للترشح على الرئاسة لأخذها لأنه سليل أهل الحق والكرم والرياضة.
رحل الحاج حسن بركات الذي عشق النادي حتى آخر يوم فى عمره، فرغم حالته المالية الميسورة، إلا أنه ورث مع أشقائه الأحد عشر شركة كبيرة جداً عن والدهم باسم «الإسكندرية للمقاولات والتوريدات» كانت منذ الستينيات تُصنّع «تخت المدارس» وتوردها لوزارة التربية والتعليم، ثم منذ 1981 اتجهوا لاستيراد الأخشاب الخام، وقسّم الأشقاء العمل فيما بينهم، فواحد يتولى شئون الميناء والجمارك، وثانٍ للحسابات وثالث للمخازن ورابع للبنوك وخامس للمعاينات، وهكذا حتى كبرت تجارتهم وأصبحوا ملوك تجارة الخشب بالإسكندرية. الوحيد الذي ترك العمل هو كابتن عامر حسين لعشقه الشديد لأمور الرياضة والكرة، فقد اشتهرت العائلة بأكملها بعشقها لكرة القدم لتخرج لنا مهندس المباريات كابتن عامر حسين.
وأعود وأقول إنه رغم الحالة المالية الميسورة للحاج حسن بركات وسكنه في أفخر شقة بالفورسيزونز الإسكندرية، إلا أنك تجد الرجل يجرى جراحة بالقدم أو العين نتيجة مضاعفات السكر صباحاً وتجده عصراً ذاهباً ليجلس بالملاعب فى مكانه المعتاد، تسأله: ليه كدا يا حاج حسن صحتك أنت لسه عامل عملية انهاردة؟ .. يكون رده: القعدة تزيد آلامي بحب أحضر للنادي وأقعد وسط الناس.
يعشقه الصغير والكبير، حتى إن كل أطفال النادي بكوه وهم لا يعرفون معنى الفقد، بسطاء النادي من العاملين شعروا أنهم تيتموا، فالرجل كان دائم العطاء والبذل لهم، فكل أسبوع كان العاملون البسطاء على موعد مع وجبة دسمة من المشويات يوزعها عليهم، ومن يريد إجراء جراحة يذهب للحاج حسن، من يريد تزويج ابنته يذهب للحاج حسن بركات، تقولش شئون اجتماعية والرجل بكل بشاشة لا يرد لأحد طلباً.
منذ ثلاثة أعوام جاءني عامل بالملاعب قال لي بكل تبجح «من فضلك يا مدام عايز أعمل عملية لمراتي في الكلى وعايز 4000 جنيه» .. الحقيقة صدمت من طريقة طلبه، فنظرت له وسكت. لتمر أسابيع وأجد والدتي تقول لى إن العامل فلان قابلها بالنادي وطلب منها أن تذكرني بطلبه، وسكت مرة أخرى، ثم مرت شهور طويلة بعدها ذهبت للنادي فإذا بالعامل يهرول نحوى ويفاجئني بكل تبجح: «فين يا مدام الفلوس اللي طلبتها لعملية مراتي؟» .. قلت له وقد فقدت أعصابي: «أنت مدايني يا ابنى ثم هات أوراق زوجتك وأنا أكلم دكتور يشوف حالتها وممكن يعمل لها العملية»، فرد: «عملية الأذن دي صعبة».. فبادرته: «إذن إيه؟ ألم تطلب مالاً لعملية كلى؟» .. فقال: «دي اتعملت هي الآن عايزة تعمل عملية في الأذن»، غضبت بعدما شعرت أننى أمام نصاب، وهرولت على الحاج حسن بركات أقص عليه الأمر، فقال لي «مين في العمال دول» .. فأشرت إلى العامل فناداه، وقال له: «يا واد يا .. مش لسه مراتك عاملة عملية قريب وعطيناك فلوس»، فرد العامل والثبات الانفعالي له شديد: «أيوا، دي كانت الزائدة الدودية»، فرد الحاج حسن: «ألم تكلم الدكتورة فلانة من ورانا وأجرت لزوجتك العملية بل تكلفت بالأدوية كمان وأنت لم تقل لنا ثم جئت وأخذت ثمن العملية؟» .. فرد العامل: «لكن هي الآن عايزة تعمل عملية فى طبلة الأذن فيها حاجة دي؟»، «شخط» فيه الحاج حسن، أما أنا فأخذت «أهرتل» وأقول له «طب إزاى يا حاج حسن سايبه في النادي بعد ما عرفت أنه بالبلدي ضحك عليك وأخذ فلوس عملية لزوجته وأصلاً عملها ببلاش من خلال إحدى عضوات النادى؟ .. والآن حضرتك شايف التبجح وطلبه لي عايز فلوس مرة لعملية كلى ثم أذن» .. فقال: سيبك منه دا عبيط وغلبان ومتزوج واحدة أكبر منه. أخذت أنتفض «لازم تمشيه يا حاج حسن»، لكنه رتب على كتفي وقال: «طيب»، وأخذني على قدر غضبى ولم يسرّحه لأنه يعلم أنه «غلبان».
هذا الموقف البسيط بل ربما الكبير يوضح كيف كان قلب وإحساس الحاج حسن بركات بالبسطاء، عمره ما قطع عيش أحد حتى لو كان مدرباً تأتى له شكاوى منه لا يمشيه بل يبدله بآخر، «ليه كدا يا حاج حسن؟».. يرد «دول غلابة والنادي يعطيهم فتافيت لا تكفى أصلاً لفلوس المواصلات فلن نكون نحن والزمن عليهم وطالما قبلوا بهذا الراتب الزهيد، فمؤكد ظروفهم ربنا أعلم بها»، وما كنت أعرفه أن الحاج حسن كان يعطى شهرياً لهؤلاء من جيبه الخاص على تلك الرواتب الزهيدة التي قررها النادي لهم، وكان دائم الشجار مع شقيقه كابتن عامر حسين على ميزانية كرة القدم للأطفال، قائلاً: «حرام».. فيرد عامر حسين: «طب أعمل إيه فريق الكبار محتاج أكثر والنادي أصلاً عامل ميزانية لكرة القدم زهيدة عن بقية الألعاب ككرة السلة واليد والطائرة والسباحة».
يوم عزاء حسن بركات رغم الكورونا وما يعانيه الشعب منها تعرف لحظتها قدر الرجل في قلوب أهل الإسكندرية من كبارها لصغارها، فالرجل رغم أنه واحد من أثرياء الثغر إلا أنه لا يحب العيش والبقاء إلا وسط البسطاء، أحبهم فأحبوه وجبر خاطرهم وتاجر مع الله في حياته فجنى رضا الله ومحبة الناس والسيرة الطيبة الباقية، حقاً الإنسان سيرة، حسنة جابر الخواطر تذهب له وتشتكى من شيء، يرد «ولا يهمك»، كنت دائماً أقول له «أنت بتصلح دائماً وراء إخواتك لو حد زعلان منهم» .. يضحك ويقول «طب أعمل إيه»، ويبتسم جبره الله في قبره كما جبر قلوب البسطاء يا حسن الخلق والخلقة وبركات النادي والثغر.
شهيرة النجار