المبحث الأول: غض البصر في القرآن الكريم:
لقد جاء الأمر بغض البصر في القرآن الكريم في سياق يربي المؤمن على حفظ الفروج، ويجعل غض البصر وسيلة لذلك الوقاية والحياء.
قول الله تعالى:
{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}
[النور: 30-31].
التأمل: لم يقل الله تعالى “يغضوا أبصارهم” فقط، بل قال {يَغْضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}، وهذا يفيد التخفيف والكف عن استعمال البصر في كل ما يخاف منه، لا في النساء فحسب، بل في كل ما يورث القلب عللاً. والزكاة هنا هي الطهارة والنماء، طهارة القلب من أدناس التعلق بغير الله، ونماء في الإيمان واليقين.
غضّ البصر عن متاع الدنيا:
تطهيرًا للقلب من التعلق بزخارفها.
قال تعالى:
﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِۦٓ أَزْوَٰجًۭا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا﴾ (طه: 131)
وقال عزّ وجلّ:
﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَلَآ أَوْلَـٰدُهُمْ﴾ (التوبة: 55)
فغضّ البصر هنا حماية للقلب من الحسد والطمع والغيرة، وصيانة للروح من عبودية المظاهر.
المبحث الثاني: غض البصر في السنة النبوية:
جاءت السنة النبوية مؤكدة ومفصلة لما أجمله القرآن.. عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال:
“سألت رسول الله ﷺ عن نظر الفجأة، فقال: اصرف بصرك”. (رواه مسلم).
الحكمة: نظر الفجأة غير مذموم، ولكن الأمر بصرف البصر فوراً هو تدريب على ردعة القلب وسرعة الامتثال.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال:
“إياكم والجلوس في الطرقات”. فقالوا: يا رسول الله، ما لنا بد من مجالسنا. فقال: “فإذا أبيتم إلا المجلس، فأعطوا الطريق حقه”. قالوا: وما حق الطريق؟ قال: “غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر”. (متفق عليه).
الحكمة: جعل غض البصر أول حق من حقوق الطريق، لأنه حارس القلب والجوارح.
وقال رسول الله ﷺ:
“النظرة سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس، من تركها من خوف الله أبدله الله إيمانًا يجد حلاوته في قلبه.”
(رواه الحاكم والطبراني)
المبحث الثالث: غض البصر في كلام الصحابة والتابعين:
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “من أغض بصره عن محارم الله، أورث الله قلبه نوراً يجد حلاوته في قلبه”.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “شرُّ ما في القلب: الشهوة الخفية، والغفلة، والحرص، والكبر، والهوى، والحسد، وهذه الستة تورد القلود موارد الهلاك، وغض البصر يمنع من ذلك كله”.
وقال سيدنا عمر بن عبد العزيز:
“اللحظات تورث الشهوات، والشهوات تورث الحسرات، والحسرات تورث النار.”
ورُوي أن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يغضّ بصره حتى قيل: “لو وُضع بين يديه جارية ما نظر إليها”، فقيل له في ذلك، فقال: “كيف أنظر إلى ما حرم الله، وأنا أستحي من الله أن أعطيه بنعمه؟”
المبحث الرابع: غض البصر في كتب الصوفية والعرفاء:
لقد نظر الصوفية إلى غض البصر على أنه ليس مجرد كف للعين، بل هو رياضة روحية تُعِدُّ القلب لمراقبة الله تعالى، وتصفيته من علائق الدنيا.
- الإمام الجنيد البغدادي (ت 297 هـ) يقول: “غض البصر أصل من أصول الخصوصية، فمن غض بصره عن كل ما يشغله عن الله، فتح الله له باب المشاهدة”. وكان يقول: “النظر سهم من سهام إبليس مسموم، فمن غض بصره عن المحارم، أورثه الله حلاوة الأنس به”.
- سيدي أحمد الزروق (ت 899 هـ) في “قواعد التصوف”
يقول: “القاعدة الثالثة والعشرون: غض البصر يوجب ثلاث فوائد: أولها: نور في القلب. الثاني: فرح في النفس. الثالث: قوة في الروح. وذلك لأن البصر إذا انهمك في المباحات شتت القلب، وإذا اشتغل بالمحظورات أظلم القلب”.
- سيدي أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ) في “إحياء علوم الدين” أفصل الكلام في غض البصر، وقال: “اعلم أن النظر بوابة القلب، فإذا أغلق باب النظر، استراح القلب من دخول الصور المحرمة، فيتفرغ لذكر الله والتفكر في ملكوته”. ويضيف: “النظر يزرع في القلب الشهوة، والشهوة تقود إلى الفكرة، والفكرة تقود إلى الإرادة، والإرادة تقود إلى الفعل، فكان غض البصر قطعاً لأول أسباب المعصية”.
- سيدي ابن عطاء الله السكندري (ت 709 هـ) في “الحكم العطائية” يقول في الحكمة الشهيرة: “ما ترك شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه”. وكان يفسرها تلاميذه بأن من ترك نظر المحرمات لله، عوضه الله بنور البصيرة، فيرى بنور الله.
- سيدي عبد القادر الجيلاني (ت 561 هـ) في “فتوح الغيب” يقول: “يا بني، أغمض عينيك عن الدنيا وأهلها، تفتح لك عين قلبك عن الله وكرامته. من نظر إلى الدنيا بشهوة، حجب عن الآخرة بقدرها”.
المبحث الخامس: قصص حقيقية عن غض البصر:
قصة العابد والمرأة:
يُحكى عن عابد من عبّاد بني إسرائيل، مرت به امرأة ذات جمال فائقة، فنظر إليها نظرة أعجبته، ثم صرف بصره فوراً، وقال: اللهم هذا بصري قد غضيته عن غيرك، فلا تفضحني به يوم القيامة. فأنزل الله عليه وحياً: “يا عبدي، غضضت بصرك عن معصيتي، فأنا أستحيي أن أنظر إلى عوراتك يوم القيامة”.
قصة الشيخ والسارق:
يحكى أن أحد الصالحين كان يسير ليلاً، فرأى سارقاً قد تسور جدار بيت، فلما رآه الصالح، غض بصره ومضى. فتعجب السارق، فلحقه وسأله: “لماذا لم تفضحني؟” فقال الصالح: “لقد غضضت بصري عن معصيتك لله، فكيف أفشي سرك؟” فتاب السارق على يديه، وقال: “غض بصرك عن معصيتي كان سبباً في هدايتي”.
قصة الإمام الشافعي مع تلميذه:
قال الإمام الشافعي: شكا إليّ تلميذ من قسوة القلب، فقلت له: “أغض بصرك”. ففعل، فلم يلبث أن انجلى عن قلبه القسوة، وحل محلها نور المعرفة.
وقصة سيدي بشر الحافي:
رُوي أنه مرّ بجارية جميلة فنظر إليها نظرة، فاستحيا من نفسه ورفع بصره إلى السماء وقال: “يا رب، هذا طرفي قد خان، فاغفر له.”
ثم تاب توبة نصوحًا، حتى صار من كبار أولياء الله، وقال في آخر أيامه:
“ما نظرت إلى امرأة منذ تبت إلى الله.”
قصة رجل من الصالحين
كان أحد السالكين في بغداد يُلقَّب بـ”نُور العين”، فقيل له: “لِمَ سُمّيت بذلك؟” فقال:
“لأنني غضضتُ بصري لله أربعين سنة، فأبدلني الله نورًا أراه في كل شيء.”
المبحث السادس: غض البصر عن مال الناس ونعمهم:
هذا هو المعنى الأوسع ، وهو من أعلى درجات الإيمان.
في القرآن:
{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}
[طه: 131].
التأويل الصوفي:
“لا تمد عينيك” يعني لا تتعلق قلبك بما في أيدي الناس، فإنه زهرة الحياة الدنيا، والقلب إذا تعلق بها، حرم صاحبه من رزق الرب الذي هو خير وأبقى.
في الحديث:
“انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله”.
(متفق عليه).
الحكمة:
هذا دواء لداء الحسد والطمع، وهو من غض البصر القلبي.
قول سيدي ذي النون المصري (ت 245 هـ):
“علامة الصادق في حبه لله، أن يغض بصره عن الدنيا وعن أهلها، كما يغض بصره عن محارم الله”.
خاتمة روحانية:
إن غض البصر ليس حرماناً، بل هو تحرر. ليس قيداً، بل هو حرية. ليس كبتاً، بل هو ارتقاء.
غض البصر عن المحارم وقاية للقلب من سهام الشهوة، وحفظ له من التعلق بغير الله.
وغض البصر عن مال الناس ونعمهم دواء للقلب من أمراض الحسد والطمع، وتدريب على القناعة والرضا بقسمة الله.
وغض البصر في العمق هو بداية الطريق إلى “مشاهدة الجمال الإلهي”، فمن أغض بصره عن صور المخلوقات، فتح الله له باب النظر إلى جماله وكبريائه.
يقول العارفون:
“من غض بصره عن المحسوسات، أطلق الله بصيرته للمعقولات والروحانيات”.
فلنغض أبصارنا عن كل ما يبعدنا عن الله، ولنذكر قول رسول الله ﷺ:
“النظر سهم مسموم من سهام إبليس، من تركه مخافة من الله، أتاه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه”
(رواه الحاكم)
اللهم صلِّ وسلم وبارك على الحبيب المصطفى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
شهيرة النجار