أما المتصوف: فهو الذي يتكلف أن يكون صوفيًا ويتوصل بجهده إلى أن يكون صوفيًا، فإذا تكلف وتقمص بطريق القوم وأخذ به يسمى متصوفًا كما يقال لمن لبس القميص تقمص، ولمن لبس الدراعة تدرع، ويقال: متقمص ومتدرع، وكذلك يقال لمن دخل في الزهد: متزهد، فإذا انتهى في زهده وبلغ وبغضت الأشياء إليه وفنى عنها، فترك كل واحد منهما صاحبه، سمى حينئذ زاهدًا، ثم تأتيه الأشياء وهو لا يريدها ولا يبغضها، بل يمتثل أمر الله فيها، وينتظر فعل الله فيها، فيقال لهذا متصوف وصوفى إذا اتصف بهذا المعنى، فهو في الأصل صوفى على وزن فوعل، مأخوذ من المصافاة، يعني عبدًا صافاه الحق عز وجل، ولهذا قيل: الصوفى من كان صافيًا من آفات النفس، خاليًا من مذموماتها، سالكًا لحميد مذاهبه، ملازمًا للحقائق غير ساكن بقلبه إلى أحد من الخلائق.
وقيل: إن التصوف: الصدق مع الحق، وحسن الخلق مع الخلق.
وأما الفرق بين المتصوف والصوفى: فالمتصوف المبتدى، والصوفي المنتهى، المتصوف الشارع في طريق الوصل، والصوفى من قطع الطريق ووصل إلى من إليه القطع والوصل،
المتصوف محمل، والصوفى محمول، حمل المتصوف كل ثقيل وخفيف، فحمل حتى ذابت نفسه، وزال هواه، وتلاشت إرادته وأمانيه فصار صافيًا فسمى صوفيًا، فحمل فصار محمول القدر كرة المشيئة، مربى النفس، منبع العلوم والحكم، بيت الأمن والنور، كهف الأولياء والأبدال وموئلهم ومرجعهم ومتنفسهم ومستراحهم ومسرتهم، إذ هو عين القلادة درة التاج منظر الرب.
والمريد المتصوف مكابد لنفسه وهواه وشيطانه وخلق ربه ودنياه وأخراه، متعبد لربه عز وجل بمفارقة الجهات الست والأشياء وترك العمل لها وموافقتها، والقبول منها وتصفية باطنه من الميل إليها والاشتغال بها، فيخالف شيطانه، ويترك دنياه، ويفارق أقرانه وسائر خلق ربه بحكمه عز وجل لطلب أخراه، ثم يجاهد نفسه وهواه بأمر الله عز وجل فيفارق أخراه، وما أعد عز وجل لأوليائه فيها من جنة لرغبته في مولاه، فيخرج من الأكوان فيصفى من الأحداث ويتجوهر لرب الأنام، فتنقطع منه العلائق والأسباب والأهل والأولاد، فتنسد عنه الجهات، وتنفتح في وجهه جهة الجهات، وباب الأبواب، وهو الرضا بقضاء رب الأنام، ورب الأرباب، ويفعل فيه فعل العالم بما كان وما هو آت، والخبير بالسرائر والخفيات، وما تتحرك به الجوارح، وما تضمره القلوب والنيات، ثم يفتح تجاه هذا الباب باب يسمى باب القربة إلى المليك الديان، ثم يرفع منه إلى مجالس الأنس، ثم يجلس على كرسي التوحيد، ثم يرفع عنه الحجب ويدخل دار الفردانية، ويكشف عنه الجلال والعظمة، فإذا وقع بصره على الجلال والعظمة بقى بلا هو، فانيًا عن نفسه وصفاته، عن حوله وقوته وحركته وإرادته ومناه ودنياه وأخراه، فيصير كإناء بلور مملوء ماء صافيًا، تتبين فيه الأشباح، فلا يحكم عليه غير القدر، ولا يوجده غير الأمر فهو فانٍ عنه وعن حظه، موجود لمولاه وأمره، لا يطلب خلوة لأن الخلود للموجود، فهو كالطفل لا يأكل حتى يطعم، ولا يلبس حتى يلبس، فهو مسترسل مفوض ﴿وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ﴾ [الكهف: 18]. هو كائن بين الخليقة بالجسمان، بائن عنهم بالأفعال والأعمال والسرائر والضمائر والنيات، فحينئذ يسمى صوفيًا، على معنى أنه يصفى من التكدر بالخيقة والبريات، وإن شئت سميته بدلاً من الأبدال، وعينًا من الأعيان، عارفًا بنفسه وربه، الذي هو محيى الأموات، المخرج أولياءه من ظلمات النفوس والطباع والأهوية والضلالات إلى ساحة الذكر والمعارف والعلوم والأسرار ونور القربة، ثم إلى نوره عز وجل: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ﴾ [النور:35] ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة: 257] فالله تعالى تولى إخراجهم من الظلمات، وهو عز وجل أطلعهم على ما أضمرت قلوب العباد، وانطوت عليه النيات، إذ جعلهم ربي جواسيس القلوب والأمناء على السرائر والخفيات، وحرسهم من الأعداء في الخلوات والجلوات، لا شيطان مضل ولا هوى متبع يميل بهم إلى الضلالات، قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ [الحجر: 42، والإسراء: 65] ولا في نفس أمارة بالسوء، ولا شهوة غالبة متبعة تدعوه إلى اللذات المردية في الدركات المخرجة من أهل السنة والجماعات.

قال الله عز من قائل: ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف:24] فحرسهم ربي، وقمع رعونات نفوسهم وضراوتها بسلطان الجبروت، فثبتهم في مراتبهم ووفقهم للوفاء بشرطه، بعد أن وفقهم للوفاء بالصدق في سيرهم، وبالصبر في محل انقطاعهم واضطرارهم، فأدوا الفرائض وحفظوا الحدود
والأوامر، وألزموا المراتب حتى قوموا وهذبوا ونقوا وأدبوا وطهروا وطيبوا ووسعوا وزكوا وشجعوا وعوذوا، فتمت لهم ولاية الله وتوليته ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة:257]، وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ [الأعراف: 196] فنقلوا من مراتبهم إلى مالك الملك، فرتب لهم ذلك بين يديه، فصار نجواهم كفاحًا يناجونه بقلوبهم وأسرارهم، فاشتغلوا به عمن سواه، ونهوا عن نفوسهم وعن كل شيء، هو رب كل شيء ومولاه، فصيرهم في قبضته، وقيدهم بعقولهم وجعلهم أمناء، فهم في قبضته وحصنه وحراسته، يتشممون روح القرب، ويعيشون في فسخة التوحيد والرحمة، فلا يشتغلون بشيء إلا بما أذن لهم من الأعمال، فإذا جاء وقت عمل أبدانهم دون قلوبهم، مضوا مع الحرس في تلك الأعمال، كيلا تضرهم شياطينهم ونفوسهم وأهويتهم، فتسلم أعمالهم من خط الشياطين، وهنات النفوس من الرياء والنفاق والعجب وطلب الأعراض، والشرك بشيء من الأشياء، والحول والقوة، بل يرون جميع ذلك فضلاً من الله وتوفيقًا من الله خلقًا، ومنهم بتوفيقه كسبًا، كيلا يخرجوا بهذه العقيدة من سنن الهدى، ثم يردون بعد أداء تلك الأوامر، وفراغ تلك الأعمال إلى مراتبهم التي ألزموها، فوقفوا معها وحفظوها بالقلوب والضمائر، وقد ينقلون إلى حاة بعد أن جعلوا الأمناء، وخوطب كل واحد منهم بالانفراد في حالته ﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ [يوسف: 54] فلا يحتاجون فيها إلى إذن، لأنهم صاروا كالمفوض إليهم أمرهم، فهم في قبضته حيثما ذهبوا في شيء من أمورهم يحققه قول النبي ﷺ فيما يحكيه عن جبريل عليه السلام، عن الله عز وجل أنه قال: «ما تقرب إلى عبدي بمثل أداء فرائضي، وإنه ليتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله وفؤاده، فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يعقل وبي يبطش» فهذا الخبر قد ذكرناه في مواضع من هذا الكتاب، لأنه أصل في هذا المقام، فيمتلئ قلب هذا العبد بحب ربه عز وجل ونوره وعلمه والمعرفة به، فلا يصح غير ذلك.
ألا ترى إلى قوله ﷺ: «من أحب أن ينظر إلى رجل يحب الله بكل قلبه فلينظر إلى سالم مولى أبي حذيفة -رضي الله عنه-» فظاهره متحرك متصرف بفعل الله تعالى، وباطنه مملوء بالله عز وجل.
وقد قال موسى عليه السلام: “يا رب أين أبغيك قال: يا موسى في أي بيت يسعني، وأي مكان يحملني؟ فإن أردت أن تعلم أين أنا فإني في قلب التارك الوادع العفيف”.
فالتارك هو الذي يترك بجهد وفيه بقية، ثم من عليه ربه فودعه موتًا عنه ثم عفا، فلا يلتفت إلى شيء سوى مولاه، فما تلك المنة التي من بها ربه عليه؟ وذلك أنه عز وجل أقامه المرتبة على شرطية اللزوم لها ليقوم بها، فلما وفى له بالشرط ولم يبغ عملاً وحركة غير ذلك وحفظه ولم يتجاوز نقله منها إلى ملك الجبروت ليقوم، فجبر نفسه ثم قمعها بسلطان الجبروت حتى ذلت وخشعت، ثم نقله منها إلى الملك السلطان ليهذب، فذابت تلك الغدد التي في نفسه، وهي أصول تلك الشهوات التي قد صارت غدة ثابتة فيها، ثم نقله منها إلى ملك الجلال فأدب، ثم نقله منها إلى ملك الجمال فنقى، ثم نقله إلى ملك العظمة فظهر، ثم إلى ملك البهاء فطيب، ثم إلى ملك البهجة فوسع، ثم إلى ملك الهيبة فربى، ثم إلى ملك الرحمة فرطب وقوى وشجع، ثم إلى ملك الفردية فعود.
فاللطف يعذبه، والرأفة تجمعه وتكتنفه، والمحبة تقويه، والشوق يدنيه، والمشيئة تؤديه إليه، والجواد العزيز يقلبه فيقربه، ثم يدنيه ثم يمهله ثم يؤدبه ثم يناجيه ثم يبسطه ثم يقبض عليه.
فأينما صار وفي كل مكان خال وفي كل حال لربه دان فهو في قبضته، وأمين من أمنائه على أسراره، وما يؤديه من ربه إلى خلقه، فإذا صار إلى هذا المحل فقد انقطعت الصفات وانقطع الكلام والعبارات، فهذا هو منتهى العقول والقلوب، وغاية ما تبلغ حالات الأولياء إليه وتؤول، وما وراء ذلك مختص بالأنبياء والرسل عليهم السلام، لأن نهاية الولي بداية النبي على الجميع صلوات الله وتحياته ورأفته ورحمته.
والفرق بين النبوة والولاية أن النبوية كلام ينفصل من الله تعالى ووحي، معه روح من الله يقضي الوحي، ويختمه بالروح، منه تعالى قبوله فيقبله، هذا هو الذي يلزم تصديقه، ومن رده فهو كافر، لأنه رد لكلام الله عز وجل.
وأما الولاية فهي لمن تولى الله عز وجل حديثه على طريق الإلهام فأوصله إليه فله الحديث، فينفصل ذلك الحديث من الله على لسان الحق معه السكينة، فتلقاه السكينة التي في قلب المجذوب فيقبله ويسكن إليه.
فالكلام للأنبياء، والحديث للأولياء، فمن رد الكلام كفر، لأنه رد على الله كلامه ووحيه، ومن رد الحديث لم يكفر، بل يخيب ويصير وبالاً عليه ويبهت قلبه لأنه رد على الحق ما جاء به محبة الله تعالى ممن علم الله في نفسه فأودعه الحق، وجعله مؤديًا إلى القلب، لأن الحديث ما ظهر من علمه الذي برز في وقت المشيئة، فيصير حديثًا في النفس كالسر، إنما يقع ذلك الحديث بمحبة امن الله لهذا العبد، فيمضي مع الحق إلى قلبه فيقبله القلب بالسكينة
شهيرة النجار