نجيب إلياس ريحانة الشهير باسم نجيب الريحاني (21 (يناير) 1889م \ 20 جُمادى الأولى 1306هـ
الوفاةً- 8 (يونيو) 1949م \ 12 شعبان 1368هـ)،
هو ممثل فُكاهي مصري، يُعد أحد أبرز رُوَّاد المسرح والسينما في الوطن العربي عمومًا ومصر خصوصًا، أشهر كوميدي في تاريخ الفنون المرئيَّة العربيَّة
نشأته
عراقيٍّ كلدانيّ من مدينة الموصل يُدعى «إلياس ريحانة»،
كان يعمل بِتجارة الخيل، فاستقر به الحال في القاهرة لِيتزوَّج امرأةً مصريَّة قبطيَّة أنجب منها ثلاثة أبناء منهم نجيب
تلقَّى الريحاني تعليمه في مدرسة الفرير (بالفرنسية: Les Frères) الفرنسيَّة بالقاهرة
وفيها تجلَّت موهبته التمثيليَّة المُبكرة، فانضمَّ إلى فريق التمثيل المدرسيّ، واشتهر بين مُعلميه بقُدرته على إلقاء الشعر العربي، حيثُ كان من أشد المُعجبين بالمُتنبي وأبي العلاء المعرِّي،
كما أحب الأعمال الأدبيَّة والمسرحيَّة الفرنسيَّة.
بعد إتمامه دراسته، عمل مُوظفًا بسيطًا في شركةٍ لِإنتاج السُكَّر في صعيد مصر، وكان لِتجربته هذه أثرٌ على العديد من مسرحياته وأفلامه السينمائيَّة لاحقًا، وعاش لِفترةٍ مُتنقلًا بين القاهرة والصعيد.
وفي أواخر العقد الثاني من القرن العشرين الميلاديّ أسس مع صديق عُمره بديع خيري فرقةً مسرحيَّة عملت على نقل الكثير من المسرحيَّات الكوميديَّة الفرنسيَّة إلى اللُغة العربيَّة، وعُرضت على مُختلف المسارح في مصر وأرجاء واسعة من الوطن العربي، قبل أن يُحوَّل قسمٌ منها إلى أفلامٍ سينمائيَّة مع بداية الإنتاج السينمائي في مصر.
تزوَّج الريحاني بديعة مصابني أشهر من عرفت في أول القرن العشرين في مسرح مصر وهي لبنانية الأصل
تعرَّف إليها أثناء إحدى عُروضه في لُبنان، واصطحبها معهُ إلى مصر حيثُ افتتحت ملهىً خاصًا بها أشتهر باسم «كازينو بديعة»، كما أسست فرقتها المسرحيَّة الخاصَّة كذلك التي عُرفت باسم «فرقة بديعة مصابني» والتي اكتشفت العديد من المواهب التمثيليَّة في مصر
مثل إسماعيل يس وتحية كاريوكا
انفصل الريحاني عن بديعة مصابني في وقتٍ لاحق،
ليتزوَّج بامرأةٍ ألمانيَّة هي «لوسي دي فرناي» وأنجب منها ابنته الوحيدة. كما قالت الابنة في حين يشكك كثيرون انها ليست ابنته لانه لم يكن ينجب
أُصيب الريحاني في أواخر أيَّامه بِمرض التيفوئيد الذي أثَّر سلبًا على صحَّة رئتيه وقلبه
، وفي يوم 8 (يونيو) 1949م المُوافق فيه 12 شعبان 1368هـ، تُوفي الريحاني في المُستشفى اليُوناني بِحي العبَّاسيَّة بِالقاهرة، ولمَّا يختتم تصوير آخر أفلامه
، ألا وهو «غزل البنات»، وكان لهُ من العُمر 60 سنة وقتها
ترك نجيب الريحاني بصمةً كبيرةً على المسرح العربي والسينما العربيَّة، حتَّى لُقِّب بِـ«زعيم المسرح الفُكاهي» في مصر وسائر الوطن العربي
، ويرجع إليه الفضل في تطوير المسرح والفن الكوميدي في مصر، وربطه بالواقع والحياة اليوميَّة في البلاد بعد أن كان قبلًا شديد التقليد للمسارح الأوروپيَّة، ويُعرف عنه قوله (في خليطٍ من اللهجة المصريَّة العاميَّة واللُغة العربيَّة الفُصحى): «عايزين مسرح مصري، مسرح ابن بلد، فيه ريحة “الطعميَّة” و”المُلوخيَّة”، مش ريحة “البطاطس المسلوق” و”البُفتيك”… مسرح نتكلَّم عليه اللُغة التي يفهمها الفلَّاح والعامل ورجل الشارع، ونُقدِّم لهُ ما يُحب أن يسمعهُ ويراه…».
وكان لِلريحاني وأُسلوبه التمثيلي تأثيرٌ على العديد من المُمثلين اللاحقين، منهم فُؤاد المُهندس الذي اعترف بتأثير أُسلوب الريحاني عليه وعلى منهجه التمثيلي
. وقد أدَّى دور الريحاني عدَّة مُمثلين في عدَّة مُسلسلات تلفزيونيَّة تحدثت عن بدايات الفن المسرحي والسينمائي في مصر والوطن العربي.
والديه
وُلد نجيب الريحاني بِمدينة القاهرة من أبٍ عراقي موصلي كلداني يُدعى «إلياس ريحانة»، وامرأة مصريَّة قبطيَّة أرثوذكسيَّة تُدعى «لطيفة بُحلُق»، وكان أحد ثلاثة أبناء لِوالديه، وعُمِّد على يد الخُوري يُوحنَّا طوَّاف يوم 15 (مايو) 1889م.
أمضى الريحاني طُفولته في حي باب الشعريَّة، الذي كان مقر الطبقة المُتوسطة القاهريَّة في ذلك الوقت
. وكان أبوه يمتلكُ مصنعًا للجبس يدُرُّ عليه ربحًا وفيرًا، يكفل لِزوجته وأبناءه حياةً كريمة
وقد أتاح هذا الأمر لِأبنائه أن يلتحقوا بِأرقى المدارس، آنذاك، إذ تابع نجيب عُلومهُ في مدرسة «الفرير» (بالفرنسية: Les Frères) الفرنسيَّة، حيثُ تلقَّن تعليمه بِتلك اللُغة حتَّى ألمَّ بها إلمامًا كبيرًا.
وكان يتميَّز في هذه المرحلة من حياته بِهُدوئه وميله لِلعُزلة وانكبابه على الدراسة، وأظهر معها اهتمامًا باللُغة العربيَّة والأدب، فتأثر بالمُتنبي وأبو العلاء المعرِّي، واستوقفتهُ آثار الأُدباء الفرنسيين مثل: ڤيكتور هوگو وجان دو لاڤونتين وموليير.
هذا الميل الأدبي تبلور لديه في حُب الشِّعر، الذي كان يُجيد إلقائه بِاللُغتين العربيَّة والفرنسيَّة، ممَّا أثار انتباه مُدرسيه، وفي مُقدمتهم الشيخ بحر أُستاذ اللُغة العربيَّة، الذي أبدى إعجابه الشديد بإلقاء الريحاني لِلشعر،
وأثنى على حُبِّه للتمثيل، فأخذ يعهد إليه بِإلقاء الشعر في المُناسبات، ورشَّحهُ لِعدَّة مسرحيَّات مدرسيَّة وأسند إليه فيها أدوارًا تمثيليَّة. ولم يمضِ وقتٌ قصير حتَّى أسند إليه رئاسة فريق التمثيل. وكان الريحاني حين يعود إلى بيته، يُغلق باب حُجرته، ويُدرِّب نفسه على الإلقاء بِصوتٍ مُرتفع يبلغ مسامع الجيران
وفاة والده
تُوفي والد الريحاني وهو طالب.
ويظهر أنَّهُ أوصى بِكُل ثروته لابنة أُخته اليتيمة، بحُجَّة أنَّ أبناءه قادرون على إعالة أنفُسهم، في حين أنَّ المرأة لا تستطيع. وكان أن وجد الابن الأكبر «توفيق» كاتب المحكمة – نفسه مسؤولًا عن إعالة الأُسرة. حتَّى إذا حصل نجيب على شهادة «البكالوريا» (الثانويَّة العامَّة) – وهو لم يبلغ السادسة عشرة بعد – التحق بِعملٍ بالبنك الزراعي، لِيُساهم بِدوره في الإنفاق على أُسرته
وهو مُخرجٌ شاميّ شاب لم يكن عمله في البنك يمنعه عن مُولاة التمثيل – فلم تلبث أن جمعت بينهما صداقةٌ متينة، تأصَّل حُب الريحاني لِلمسرح في ظلِّها، إذ أخذ الصديقان يتردَّدان معًا – لِعدَّة أشهر – على الفرق المسرحيَّة بالقاهرة
وتمكنا من الحُصول على وظيفتيّ «كومبارس» بِدار الأوپرا، حيثُ كانت الفرق الأجنبيَّة تعمل في موسم الشتاء، وكانت أوَّل رواية اشترك الريحاني في تمثيلها هي رواية «الملك يلهو» وكان قد ترجمها أديب اسمه أحمد كمال رياض بك.
وبذلك أُتيح للريحاني مُشاهدة تمثيل بعض كبار المسرحيين في زمانه، مثل: جان مونيه – سيلي (بالفرنسية: Jean Mounet-Sully)، وبنوا قسطنط كوكلان (بالفرنسية: Benoît Constant Coquelin)، ولوسيان جرمان گيتري (بالفرنسية: Lucien Germain Guitry)، وسارة برنار (بالفرنسية: Sarah Bernhardt). وفي أواخر سنة 1907م، قرَّر عزيز عيد تكوين فرقته المسرحيَّة الخاصَّة. فلم يلبث أن ظهر «جوق عزيز عيد»، في شهر (سپتمبر) من السنة نفسها. وكان من الطبيعي أن ينضم الريحاني إلى هذه الفرقة التي تخصصت في تمثيل فارسات الكاتب الفرنسي جورج فيدو، مثل «گرنگوار» وهي من ترجمة عزيز عيد نفسه.
كان عزيز عيد شغوفًا بالكوميديا أكثر منه بِالميلودراما، مُتطلعًا إلى ترقية الكوميديا المصريَّة المحليَّة. لِذلك كان يعتقد أنَّهُ على الجُمهور أن يتعوَّد كوميديا أرقى من أُسلوب «الفصل المُضحك» والأوپريتات التي كانت الفرق الشاميَّة تُمثلها، إيمانًا منه بِحاجة الجمهور إلى مُشاهدة «الفارس» الفرنسي، لِيتعرَّف على موضوعات الحياة المُعاصرة وقواعد البناء الكوميديّ. ولمَّا كان الريحاني قليل الاهتمام بِالكوميديا، فإنَّهُ لم يلبث أن انفصل عن الفرقة. إذ كان – ككثيرين من أبناء جيله – مُتأثرًا بالرأي القائل بِأنَّ الدراما الجادَّة وحدها هي الجديرة بِالمُشاهدة. لكنَّهُ لم يلبث أن تحوَّل عن هذا الرأي بل إنَّهُ أخذ يُعارضه بِشدَّة.
واستمرَّ هذا النمط التمثيلي يُسيطر على الريحاني، بحيثُ كان يستظهر قصائد هوگو وأشعار المُتنبي ولُزوميَّات أبي العلاء المعرّي، فكان ما أن يعود من عمله حتَّى يخلوا بنفسه في المنزل ويُلقي ويُمثِّل أمام المرآة، حتَّى ضجَّت والدته وكاد إخوته أن يهجروا المنزل، لكنَّهُ لم يكن يعبء بِتلك العراقيل، واستمرَّ يُرضي هوايته، كما ذكر في مُذكراته
استقال عزيز عيد من عمله في البنك سنة 1908م لِيتفرَّغ تمامًا للتمثيل، وانتقل بِفرقته المسرحيَّة إلى مسرح إسكندر فرح بِشارع عبد العزيز، وتشارك مع المُمثل القديم سُليمان الحدَّاد، وعرض رواياتٍ مُترجمة عن الفرنسيَّة منها: «ضربة مقرعة»، و«الابن الخارق للطبيعة»، و«عندك حاجة تبلَّغ عنها»، و«ليلة زفاف». وكان الريحاني بِحُكم ارتباطه برابطة الزمالة مع عزيز عيد في البنك تُسند إليه أدوار ثانويَّة صغيرة. ولم يكن انصراف الريحاني لِلمسرح يسمح لهُ بالانتظام في عمله بالبنك، ففُصل منه بعد قليل، بعد أن أصبح عدد أيَّام تغيُبه عن عمله لا يُطاق بالنسبة لِلإدارة، على أنَّ الريحاني أشار في مُذكراته أنَّ ما وُصف بأنَّهُ عمله في البنك لم يكن عملًا حقيقيًّا على الإطلاق، فقال: «وَلَم تَجِد إِدَارَةُ البَنكِ إِزَاءَ هَذِهِ الحَالَاتِ الصَّارِخَةِ إلَّا أن تًسْتَغنِي عَن عَمَلِي. وَأيُّ عَمَلٍ يَا حَسْرَة؟ هُوَّ أَنَا كُنت بَاشْتَغَل؟!».
مع فرقة سليم عطا الله
بعد فصله من البنك، أخذ الريحاني يُمضي أكثر أوقاته في المقهى المُقابل لِمسرح إسكندر فرح. وذات يوم، عرض عليه المُمثِّل الشَّامي أمين عطا الله الذي كان قد تعرَّف عليه في فرقة عزيز عيد – العمل بِفرقة أخيه سليم بِالإسكندريَّة، لقاء أربعة جُنيهات مصريَّة في الشهر، فقبل الريحاني على الفور، وكان ذلك أوَّل مُرتَّب ذو قيمة تناوله من التمثيل.
وكانت أوَّل مسرحيَّة مثَّلها الريحاني هي مسرحيَّة «شارلُمان»، التي أُسند إليه فيها دور الإمبراطور الإفرنجي، وهو دورٌ ثانويّ. ويُذكر أنَّهُ أدى دوره بِنجاحٍ مُبهرٍ في ليلة الافتتتاح حتَّى طغى على البطل نفسه، أي المُدير سليم عطا الله الذي كان يُشارك بالتمثيل، وما أن أُسدل ستارُ هذا الفصل حتَّى هرع إلى الريحاني جمهرة من الكُتَّاب والأُدباء وأغلبهم من أصدقاء مُدير الفرقة وصافحوه مُهنئين ونصحوا المُدير بالاحتفاظ به لأنَّه سيكون – على حد قولهم – مُمثلًا لا يُشقُّ لهُ غُبار.
غير أنَّ هذا النجاح يبدو أنَّهُ أثار عليه حقد المُدير سليم عطا الله، فقرر فصله.
في شركة السُكَّر بالصعيد
بعد فترةٍ طويلةٍ قضاها الريحاني بلا عمل، تحوَّل لِلبحث عن عملٍ في مجالٍ آخر غير المسرح، حتَّى كانت سنة 1910م، حيثُ التحق بِشركة السُكَّر بِنجع حمادي في صعيد مصر. وسارت أحواله على ما يُرام خلال سبعة أشهر، إلى أن أُغرم بِزوجة مُدير الحسابات التي كانت تصغر زوجها بِسنين كثيرة. فحاول أن يلقاها ذات يوم، لا سيَّما وأنَّ مسكنه كان مُواجهًا لِمسكن الزوجين، وكان زوجها مُتغيبًا في القاهرة لِقضاء مُهمَّة مصلحيَّة. وأثناء مُحاولة الريحاني التسلل إلى غُرفة نوم تلك الامرأة، فوجئ بالخادمة التي استيقظت في تلك اللحظة وعلا صُراخها حتَّى صحا الجيران، ووفد الخُفراء وألقوا القبض على الريحاني. وذاعت أنباء الفضيحة في البلدة، ففُصل الريحاني من عمله، وعاد إلى القاهرة وإلى الجُلوس في المقهى
وازدادت أحوال الريحاني سوءًا على سوء عندما طردته والدته من المنزل بعد فصله من عمله كونها كانت قد ضاقت به ذرعًا. فعاش لِفترةٍ مُتشردًا في شوارع القاهرة، فكان يُمضي نهاره جالسًا في المقهى حتَّى تُغلق أبوابه في الساعة الثانية صباحًا، ثُمَّ يذهب لِيفترش إفريز كوبري قصر النيل حتَّى طُلوع الشمس، ثُمَّ يُعاود الذهاب إلى المقهى.
وبعد فترةٍ على هذه الحالة، تمكَّن الريحاني من العُثور على عملٍ كمُترجمٍ ومُعرِّب بِفرقة الشيخ أحمد الشَّامي، وهي فرقة مسرحيَّة جوَّآلة مشهورة، ترجم لها مسرحيتين فرنسيتين، إحداهما «عُشرون يومًا في الظل» التي حوَّلها – فيما بعد – إلى مسرحيَّةٍ طويلةٍ من إعداده. وكانت ظُروف العمل بالفرقة شاقَّة وبدائيَّة، إذ كانت العُروض تُقام على ألواحٍ خشبيَّةٍ مرصوصة فوق براميل، وكانت الفرقة تتنقل من مدينةٍ إلى أُخرى في طول مصر وعرضها، وكان الريحاني ينام على الأرض، ويتقاضى أجره لبنًا وبيضًا، لكنَّهُ كان يتقبَّل الأمر بِرُوحٍ مرحة. وذات يومٍ فُوجئ بِزيارة أُمِّه له، التي أتته تحمل خطابًا من شركة السُكَّر يُتيح لهُ العودة إلى عمله السَّابق، وفي نفس الوقت حاولت إقناعه مُجددًا بِترك التمثيل وبيئته «الوضيعة» والعودة إلى الحياة «الكريمة». وتقبَّل الريحاني العرض مُستسلمًا لأنَّهُ كان قد ذاق الهوان في هذه الفرقة. وتبع أُمَّه إلى القاهرة، ومنها سافر إلى شركة السُكَّر بِنجع حمادي
قضى الريحاني سنتين في هُدوء الريف ودعته، وابتعد عن الحركات الصبيانيَّة التي اشتهر بها قبلًا، فجدَّ في عمله حتَّى حاز ثقة مُدير الشركة وغيره من الرُؤساء، فارتفع بِذلك مُرتبه إلى أربعة عشر جُنيهًا في الشهر. وفي سنة 1912م تلقَّى رسالةً من عزيز عيد يُخبره فيها بِإنشاء فرقة دراميَّة جديدة تولَّى إدارتها المُمثل جورج أبيض، الذي كان قد عاد من باريس، حيثُ درس الفن المسرحي تحت إشراف المُمثل الكبير «سيلڤان». وكانت هذه الخُطوة بِمثابة إحياء لِلآمال في إنعاش الحياة المسرحية بالقاهرة. وقرأ الريحاني هذه الرسالة بِهُدوءٍ مُصطنع. ومع أنهُ لم يكن مُستعدًا لِلمُخاطرة باستقراره مرَّة أُخرى، فإنَّهُ لم يعد يستطيع مُقاومة إغراء المسرح، بعد أن طالع في الصُحف أنباء نجاح فرقة أبيض. فحصل على إجازة، وسافر إلى القاهرة، وهُناك شاهد جميع مسرحيَّات جورج أبيض، ثُمَّ عاد بعد شهرين إلى عمله لِنفاذ نُقوده، وإن كان شغفه بالتمثيل قد صار أقوى من ذي قبل. ومضت سنتان أُخرتان، لم يطرأ فيهما تغييرٌ يُذكر على حياة الريحاني، سوى أنَّ عرَّافة فرنسيَّة تنبأت لهُ بِأحداثٍ في المُستقبل، قُدِّر لها أن تتحقق بعد سنوات، كما أورد في مُذكراته. وفي سنة 1914م، فُصل الريحاني مرَّة أُخرى من شركة السُكَّر، فعاد إلى القاهرة مُجددًا، على أنَّ فترة عمله في الشركة تركت فيه أثرًا انعكس في الكثير من أفلامه السينمائيَّة لاحقًا، حيثُ أدَّى دور المُوظف البسيط
مع جورج أبيض
بعد عودته إلى القاهرة، التحق نجيب الريحاني بِفرقة جورج أبيض، الذي كان قد ضمَّ – قُبيل ذلك – فرقته إلى فرقة سلامة حجازي. وكانت أوَّل مسرحيَّة يظهر فيها الريحاني هي «صلاح الدين الأيُّوبي»، وهي ميلودراما تاريخيَّة. وكان جورج أبيض يضطلع فيها بِدور الملك الإنگليزي ريتشارد الأوَّل قلب الأسد، بينما اختير للريحاني دورًا صغيرًا هو ملكُ النمسا، وكان كُل ما عليه أن يفعله هو أن يقف من جورج أبيض موقف المُبارز ويتكلَّم بضع كلماتٍ فقط. وكانت الحرب العالميَّة الأولى قد اشتعلت في ذلك الوقت (سنة 1914م)، وكانت الصُحف والمجلَّات المصريَّة والعُثمانيَّة والأجنبيَّة تنشر صُورًا لِمُلوك وأباطرة الدُول المُتحاربة، ومن بينها صورة الإمبراطور النمساوي فرانس جوزيف الأوَّل، فخطر للريحاني أن يتقمَّص شخصيَّة هذا الإمبراطور ما دام دوره هو «ملك النمسا»، فتبرَّج ووضع لحيةً اصطناعيَّة على وجهه، ثُمَّ خرج إلى المسرح حينما حان الوقت، فضجَّ الجمهور بالضحك، ويروي الريحاني في مُذكراته قصَّة هذه الحادثة فيقول: «اندَفَعَ جورج أَبيَض ثَائِرًا مِثلَ رِيتشَارد قَلب الأَسَد، فَفُوجِئ بِمَظهَرِي هَذا. وَتَبَخَّرَت حَمَاسَتُه، وَانطَفَأَت شُعلَتُه، وَأَحسَسْتُ بِأَنَّهُ يُغَالِبُ عَاصِفةً مِنَ الضَّحِك تَكَادُ تَتَفَجَّرُ عَلَى شَفَتَيهِ وَمِن أَسَارِيرِ وَجهِهِ!… كُلُّ ذَلِكَ وَأَنَا وَاقِفٌ فِي مَكَانِي لَا أَبْتَسِمُ وَلَا أُخَالِفُ طَبِيْعَةَ المَوْقِف… أَقُولُ إنَّ جورج أبيض دَخَل ثَائِرًا، وَهُوَ يَصْرِخُ مُرَدِّدًا كَلِمَةَ رِيتشَارد المَأثُورَة: “وَيلٌ لِمَلِكِ النَّمسَا مِن قَلبِ الأَسَد!”… وَلَكِن وَيلٌ إيه وبتاع إيه. مَا خَلَاص مَا خَلَاص، جورج مَا بَاقاش جورج والمسرح بَقَا عيضه، والحَابل اختلط بالنابل زي ما بيقولوا».
وعلى أثر ذلك الحادث، فُصل الريحاني من الفرقة، ولم يُصبح بلا عمل فقط، بل إنَّهُ وجد جميع الأبواب مُغلقة في وجهه كذلك
فرقة الكوميدي العربي والتشارك مع عزيز عيد
بعد فصله من الفرقة، أخذ الريحاني يتردد على المقهى يوميًّا، لِيقضي أوقات فراغه. ولحق به عزيز عيد، الذي ترك هو الآخر فرقة جورج أبيض مع صديقته اللُبنانيَّة روز اليُوسُف، وجلس الاثنان يتشاوران في أمر مُستقبلهما، وسُرعان ما انضمَّ إليهما بعض المُمثلين الذين كانوا يُعانون الإفلاس والبطالة مثلهم، ومنهم: أمين صدقي، واستيفان روستي، وحسن فائق، وعبدُ اللطيف جمجوم، وكانوا جميعًا يتطلَّعون إلى تكوين فرقة جديدة. وذات يومٍ قدَّم لهم ثري من رُوَّاد المقهى عشرة جُنيهات، لِيبدءوا في تكوين الفرقة.
فأنشأوا بِهذا المبلغ «فرقة الكوميدي العربي» في صيف سنة 1915م، تحت إشراف عزيز عيد. واستهلَّت الفرقة نشاطها في مسرح «برنتانيا» بِإحدى فارسات جورج فيدو، هي «خلِّي بالك من إميلي» (بالفرنسية: Occupe-toi d’Amélie) وهي من ترجمة أمين صدقي.
وأعلن عزيز عيد أنَّ مُشاهدة هذه المسرحيَّة مقصورة على الرجال فقط، إذ ما من سيِّدة مصريَّة مُحترمة كانت – حتَّى ذلك الحين – تجرؤ على حُضور عرض مسرحيَّة تُشيد بِمُغامرات مومس. وعلى الرُغم من طرافة موضوع المسرحيَّة، فإنَّ جُمهور الرجال أخفق في تذُّوق فيدو، لأنَّهُ لم يكن يتقبَّل عرضًا بلا موسيقى. كذلك هاجم النُقَّاد هذه المسرحيَّة بحُجَّة مُخالفتها «لِلواقع والمنطق والأخلاق».
وبعد شهرين انتقلت الفرقة إلى مسرحٍ آخر أقل نفقات، وهو مسرح «الشانزليزيه» بِالفجالة. ولم يُكتب لِهذه المُحاولة النجاح، والسبب هو أنَّ فارسات عيد الفرنسيَّة، كانت تخدش حياء الجُمهور
. وانخفض دخل الفرقة عمَّا كان عليه في مسرح «برنتانيا»، ممَّا أدَّى إلى توقُّف عُروضها، فاضطرَّ عيد إلى ضم فرقته إلى فرقة عُكاشة في 3 (نوڤمبر) 1915م المُوافق فيه 26 ذو الحجَّة 1333هـ، كما كان يفعل مُعظم أصحاب الفرق في ذلك الوقت. وفي نهاية الأمر، حلَّ فرقته، وعاد إلى عمله السَّابق بِفرقة أبيض.
ويرجع فشل مُحاولة عيد الثانية في مجال الكوميديا إلى سببين أساسيين: أولًا شُعور الجُمهور بالخجل أمام فارسات عيد الجريئة. حتَّى إنَّ عنوان إحداها، «يا ستِّي ما تمشيش كده عريانة» (بالفرنسية: Madame ne Marchez Pas Donc Toute Nue) أثار حملة نقد عنيفة في الصُحف والجرائد، إذ خشي البعض – بِوحي العنوان – أن تظهر مُمثلة عارية على المسرح.
ثانيًا اعتقاد الجُمهُور أنَّ الميلودرامات الموسيقيَّة وتراجيديَّات جورج أبيض الكلاسيكيَّة هي وحدها الأشكال المسرحيَّة الجديرة بالاحترام، وأنَّ الكوميديا – وبِخاصَّةً الكوميديا المكتوبة بالعاميَّة – لا تستحق الاهتمام. وعلى الرُغم من هذا الفشل، فإنَّ هذه التجرُبة عادت على الريحاني بِفائدةٍ كبيرة، إذ تلقَّى في فرقة عيد تدريباته الفنيَّة الوحيدة في حياته. فتعلَّم فن الإخراج، وتعرَّف على أُسلوب وتقنيَّة الفارس الفرنسي، الذي قُدَّر لهُ أن يكون ذا الأثر الأكبر على أغلب مسرحيَّاته التالية، وأخيرًا تأكَّد الريحاني من أنَّ موهبته التمثيليَّة تتألَّق في الكوميديا، وذلك بعد براعته في تأدية دور «پوشيه» والد إميلي، وقال بالنسبة لِهذا الأمر: «إنَّ نَجَاحي – كَمَا يَقُولُون – فِي هَذَا الدًّور جَاءَ عَجيبًا مُذهِلًا لِي. إِنِّي أُحِبُّ الدّرَامَا وَأُجِيدُهَا، وَمَا تَوَقَّعتُ أَبَدًا أن يَنَالَ تَمثِيلِي لِدَورِ “پوشيه” كُلُّ هَذَا النَّجَاحِ الكَبِير الذي أَحْرَزتُه فِي تِلكَ الليلَة.. وَلَقَد لَفَت نَجَاحِي وَإِقبَالُ الجُمهُورِ وَتَهلِيلِهِ وَصِيَاحِهِ أنظَارَ زُمَلَائِي فِي الفِرقَة، وَخَاصَّةً صَدِيقِي عِيد. وَكَانَ سَبَبًا فِي إِصرَارِ عَزيز عَلَى تَمثِيلِي الأَدوَارَ الفُكَاهِيَّةَ دَائِمًا»
على أنَّ الريحاني لم يلبث أن اختلف مع عيد في إحدى المسائل الحيويَّة. فقد كان يرى أنَّ اقتباس المسرحيَّات الفرنسيَّة ينبغي أن يتماشى مع ذوق المُجتمع المصري والعربي والشرقي عُمومًا، ومع عاداته وتقاليده وطباعه، وألَّا تخرج هذه المسرحيَّات مُطابقة لِصُورتها الأصليَّة. واتَّسعت هُوَّةُ الخلاف بينهما، حتَّى اضطرَّ الريحاني إلى ترك الفرقة في شهر نيسان (أبريل) سنة 1916م بعد أن أتمَّ تدريباته، مُكملًا بذلك المرحلة الأولى من حياته في المسرح، مُؤهلًا لِكي يشق طريقه الخاص.
مرحلة «الأبيه دي روز» وكشكش بك (1916 – 1917م)
بانفصال الريحاني عن عزيز عيد تبدأ المرحلة الثانية من حياته الفنيَّة، التي بدأ يلمع فيها كفنَّان كوميدي أصيل، ابتكر ما يُعرف باسم الكوميديا «الفرانكوعربيَّة» أو «الفرانكو-آراب» (بالفرنسية: Franco-Arabe Comédie)، كما ابتكر شخصيَّته المشهورة «كشكش بك»، العُمدة الريفي
. وحتَّى شهر (يونيو) سنة 1916م، كان الريحاني مُتعطلًا، تمضي حياته بلا هدف. وفي مساء أوَّل حُزيران (يونيو) من السنة سالِفة الذِكر، كان الريحاني جالسًا في مقهى مسرح برنتانيا، فأتى شخصٌ يرتدي سترة فاخرة ويمسك عصا ذهبيَّة المقبض وجلس بجانبه وناوله سيجارة دون مُقدِّمات، ولم يتعرَّف الريحاني على هذا الشخص في بادئ الأمر، ولمَّا أمعن النظر فيه تبيَّن أنه استيفان روستي، زميله الذي عانى معه من الشقاء والفقر.
وأخذ روستي يُحدثه عن مصدر ثروته، وكيف أنَّهُ بعد انفصاله عن فرقة عزيز عيد، وجد عملًا بِملهى «الأبيه دي روز» الذي كان ملكًا لِشخصٍ يونانيٍّ يُدعى «روزاتي». هُناك كان استيفان روستي يُقدِّم تمثيلات خيال الظل، ويُؤدي مع إحدى المُمثلات مشاهد غراميَّة كوميديَّة خلف ستارة شفَّافة تُضاء من الداخل، فتسقط ظلالهما على الستار. وهذا اللون من التمثيل كان مألوفًا لدى جُمهور الملهى، وكان روستي يتقاضى عن دوره أجرًا مُرتفعًا، بلغ ستين قرشًا في الليلة الواحدة.
وطلب الريحاني من روستي أن يجد لهُ عملًا مُماثلًا في «الأبيه دي روز». وكان دور الريحاني في تمثيليَّة خيال الظل بسيطًا للغاية. إذ تُقدم راقصة حسناء مُثيرة – وراء الستار – بِمُصاحبة الريحاني، الذي كان يُؤدِّي دور خادمٍ نوبيٍّ، على رأسه طُربوشٍ مُرَّاكشيٍّ. وكانت الكوميديا تنبعُ أساسًا من التلاعب بِزُر الطُربُوش، أو مُغازلة الراقصة، أو الاستجابة لِحركاتها المُثيرة بِحركاتٍ هزليَّةٍ. وكان أجر الريحاني أربعين قرشًا عن الليلة الواحدة. وهو ما يُعدُّ ثروةً إذا ما قورن بِالقرشين أو الثلاثة التي كان يتكسَّبُها في فرقة عيد.
وفي تلك الفترة، توافدت الجُيوش الأوروپيَّة الحليفة على مصر، بعد أن فشلت حملة ترعة السويس الأولى من قِبل الجيش العُثماني لِإخراج البريطانيين من مصر وتمهيدًا للزحف على ما تبقَّى من الممالك العُثمانيَّة في الشَّام والعراق، فصار مُعظم رُوَّاد ملهى «الأبيه دي روز» من الجُنود الأجانب. ورأى الريحاني أنَّ الوقت قد حان لِكي يهجر دوره في تمثيليَّة خيال الظل الهابطة، فأقنع «روزاتي» – صاحب الملهى – بأن يسمح لهُ ولِروستي بِتقديم كوميديا قصيرة من فصلٍ واحدٍ بالفرنسيَّة. إلَّا أنَّ هذه الخُطوة لم تنجح، إذ أنَّ كُل ما كان يحرص عليه الرُوَّاد – من مصريين وأجانب – هو مُشاهدة الحسناوات من راقصاتٍ ومُغنياتٍ على منصة العرض. وما أن كان تمثيلُ المسرحيَّة الفرنسيَّة يبدأ، حتَّى كان المُشاهدون يديرون وجههم للمنصة
شهيرة النجار