تحت جنح الظلام، وبحراسة عسكرية إسرائيلية مشددة، يقتحم مئات من المستوطنين اليهود مدينة نابلس، شمالي الضفة الغربية، بشكل شبه أسبوعي، قاصدين ما يُعرف بـ”مقام يوسف”، الذي يعود بحسب أكاديميين للعهد العثماني، لترتيل صلواتهم وطقوسهم التلمودية داخله، مدعين أن المكان يضم رفات النبي يوسف عليه السلام، وأنه حق تاريخي لهم.
يستمر المستوطنون بأداء صلواتهم حتى ساعات الفجر داخل أروقة المقام المكون من عدة غرف، أما خارجه فتتكفل القوات العسكرية بصد الشبان الفلسطينيين الذين يحاولون طرد هؤلاء من المكان، وسرعان ما تندلع المواجهات، ويتحول ليل سكان المنطقة “لرعب” حقيقي.
وشكّل “مقام” أو “قبر يوسف”، خلال السنوات الأخيرة، عنوان صراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بعد أن أصبح مزاراً للمستوطنين، على الرغم أن الكثير من الدراسات التاريخية والأبحاث الأثرية تنفي الادعاءات اليهودية بأن المكان يعود للنبي يوسف.
في المقابل، تشكل المنطقة وما يحيطها نقطة للفلسطينيين، إذ يتجمع العشرات من الشبان في كل مرة، ويشعلون الإطارات، ويستهدفون سيارات المستوطنين ودوريات الجيش الإسرائيلي بالحجارة والزجاجات الحارقة.
ومع تصاعد المواجهات التي تشهدها مناطق متفرقة بالضفة الغربية، منذ بداية الشهر الجاري، بين شبان فلسطينيين وقوات إسرائيلية، رداً على اقتحامات المستوطنين لساحات المسجد الأقصى، أضرم فلسطينيون ملثمون النار بالمكان، قبل أسبوع، ما أدى لاحتراق أجزاء كبيرة منه، ورفعوا علم بلادهم فوقه، رفضاً منهم لزيارات المستوطنين له.
ويقع المقام في الطرف الشرقي لمدينة نابلس، ويخضع للسيطرة الفلسطينية، ويعتبره اليهود مقاماً مقدساً منذ احتلال الضفة عام 1967.
وحسب المعتقدات اليهودية، فإن “عظام النبي يوسف بن يعقوب” أُحضرت من مصر ودُفنت في هذا المكان، لكن عدداً من علماء الآثار نفوا صحة هذه الرواية، قائلين إن “عمر المكان لا يتجاوز بضعة قرون، وأنه مقام لشيخ مسلم اسمه يوسف الدويكات”.
أستاذ السياحة والآثار في جامعة “النجاح الوطنية” في نابلس، مازن رسمي، فنّد المزاعم اليهودية التي تقول إن المقام للنبي يوسف، قائلاً: “إنها مزاعم يهودية لا أساس لها من الصحة”.
وأضاف مازن: “من الناحية الدينية فسيدنا يوسف (..) عندما خرج مع القافلة الإسماعيلية وباعوه في مصر لم يعد بعدها لفلسطين، وهم يقولون في التوراة إنه أوصى شعبه بأن يحنطوه ويأخذوه لأرض الآباء والأجداد، وبالنسبة للديانات السماوية، فإن أجساد الأنبياء بكرامة من الله لا تبلى ولا تفنى، بالتالي من المستحيل أن يفعل سيدنا يوسف ما يتعارض مع الشريعة”.
الجانب الثاني في تفنيد تلك المزاعم، بحسب رسمي أنه “إذا كان النبي يوسف قد أوصى بأن يعيدوه لأرض الآباء والأجداد، فلماذا سيدنا موسى، وهو الأهم في دياتنهم وصاحب الشريعة، لم يوص بهذه الوصية؟”.
وتابع الأكاديمي متسائلاً: “هم يدّعون أن سيدنا يوسف عاد لفلسطين، فلماذا أراد أن يُدفن في شكيم.. أي نابلس؟، فحسب التوراة اليهودية والسامرية فإن الرب منح شكيم ليوسف ودفن فيها، مع العلم أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وزوجاتهم، العائلة المقدسة كلها، دفنت في الخليل، فلماذا يكون يوسف بعيداً عنهم؟، فإذا كان أوصى أن يُدفن بأرض الآباء فمن الطبيعي أن يكون معهم وليس في نابلس”.
وأشار أستاذ الآثار إلى أن هناك مقاماً للنبي موسى في أريحا، وفي هذا الصدد تساءل “لماذا لا يوجد أي اهتمام يهودي به، وإنما التركيز على مقام يوسف بنابلس، وموسى هو النبي الأهم بالنسبة لهم، هذا الأمر يؤكد على أن المسألة ليست دينية أو عقائدية، بقدر أنها سياسية”.
وأوضح أن المناطق ذات الكثافة السكانية، والأهمية الأيديولوجية والسياسية والعسكرية “يتم التركيز عليها من قبل الاحتلال الإسرائيلي، ولو أن القصد عقائدي، لذهبوا لعمل مناسبة دينية واحدة في مقام موسى، إضافة إلى أن هناك أكثر من رواية تاريخية لقبر يوسف في عدة مناطق في فلسطين والأردن”.
دراسات أثرية
في إطار تفنيده للإدعاءات اليهودية، لفت رسمي إلى أن البناء الحالي، من ناحية معمارية وأثرية لا يتعدى عمره من 200 حتى 250 عاماً فقط، وأنه بُني بنمط إسلامي على نمط المقامات الإسلامية المتعارف عليها، سواء بالفترات العثمانية أو ما قبلها. واستطرد: “المقام عثماني مئة بالمئة، فالتراث، والبناء، والسقف، والقبة، والمحراب، والجدران تشير بلا أدنى شك أنه يعود للفترة العثمانية”.
وحول الرواية التاريخية للمقام، فذكر المحاضر الجامعي أنها تقول بأن القبر يعود لأحد الرجال الصالحين من عائلة “دويكات” التي تسكن في تلك المنطقة، ويدعى يوسف دويكات، حيث تعد هذه الرواية الأقرب للصواب، مؤكداً عدم وجود جثة للنبي يوسف إطلاقاً في المقام، وأن حجارة الرخام الموجودة وضعها المستوطنون قبل عدة سنوات فقط، في محاولة منهم لإثبات ادعاءاتهم.
وأثبتت الكثير من الدراسات التي أجريت للمقام، أنه بناء إسلامي، يخلو من أية إشارات أثرية أو تاريخية تدل على الفترة التي عاش فيها النبي يوسف قبل 3500 عاماً، أي في العنصر البرونزي، بحسب أستاذ الآثار نفسه.
وبيّن أن المقام بكل عناصره “لا يعود لأكثر من 200-250 عام، كأبعد تقدير، ولا تعود لذلك الزمن، كما أن حجار القبر القديم كلها، لا يتجاوز عمرها قرنين من الزمان، وهذا يؤكد الرواية المحلية والتاريخية أنه يعود لولي صالح سكن المنطقة قديماً”.
التاريخ ينفي
“في حركة التاريخ لم يذكر مكان دفن الأنبياء بشكل مؤكد ودقيق إلا نبي واحد، وهو محمد عليه الصلاة والسلام، خاتم الأنبياء”.. تلك أولى النقاط التي دحض بها أستاذ التاريخ في الجامعة نفسها، أمين أبو بكر، المزاعم اليهودية حول قبر يوسف في نابلس.
وقال أبو بكر: “أصل رواية قبر سيدنا يوسف تعود لحقبة من الجهل التي عاشها الناس قديماً، وأخذوها على محمل الجد والتقديس، كما أن جميع المقامات التي ظهرت في بلادنا تعود لفترة الأيوبيين والمماليك على أبعد تقدير، ومعظمها لقادة وصحابة ومجاهدين في الحروب الصليبية، ودخلت فيها بعض الأساطير بفعل الجهل الذي كان يسود المنطقة، وطبيعة الصراع”.
وأضاف:”هناك عدة مقامات حملت اسم سيدنا يوسف، في مصر، وجنوب لبنان، وفلسطين بمنطقة جب يوسف ،في عرابة قرب جنين ونابلس، والخليل، وفي منابع أعالي نهر الأردن”، متسائلاً: “هل يعقل أن سيدنا يوسف دُفن في كل هذه الأماكن؟”.
وتشير الرسومات والصور القديمة لقبر يوسف، والتي يعود تاريخها للنصف الثاني من القرن التاسع عشر، أنه كان عبارة عن كهف صغير، ولم يكن يولى أي اهتمام، بحسب أستاذ التاريخ، مستبعداً أن المقام كان يؤخذ على محمل الجد، وقال:” الرحالة الأجانب الذين مروا بالمكان، لم يشيروا لوجود مجسم بنائي فوق المقام، وإنما كان كهفاً صغيراً يتم النزول إليه بعدة درجات”.
ويذكر أبو بكر أن الأرشيف العثماني، مليئ بالوثائق التي تحدد محيط مقام يوسف، مشيراً إلى أن هناك مراسلات بين دائرتي الأوقاف في نابلس واسطنبول، حول المقام وإعماره وترميمه، والمساحات الزراعية التي كانت حوله، فمن كان يستأجر هذه الأراضي لزراعتها يعود ريعها للمقام. وأكد أستاذ التاريخ على أن ما يجري الآن هو منطق القوة في السيطرة على المكان، وتابع: “أتحدى كل دوائر الاستشراق أن يثبتوا بالأدلة العلمية، أن هذا المقام هو لسيدنا يوسف”.
ومضى قائلاً: “المقام أخذ بُعده بالقرن التاسع عشر، وهذا ما يشير إليه أرشيف دائرة الأوقاف في نابلس، فالبحث الأثري والبحث عن المقامات بدأ منذ النصف الثاني من ذلك القرن، عندما بدأت الأبحاث التوراتية التي كانت تمهد للحركة الصهيونية، ليثبتوا أن فلسطين هي أرض الميعاد، والبعد الاستعماري الذي سيترتب عليها، حيث بدأوا حينها بمسح أثري دقيق لغايات استعمارية”. وطالب أستاذ التاريخ، دوائر الأوقاف الإسلامية بفتح أرشيفها لتفنيد المزاعم اليهودية، وقال:”نحن مستعدون لهذا العمل”.
شهيرة النجار