يطل علينا الكاتب الصحفي الكبير محمد نجم مدير تحرير مؤسسة دار المعارف العريقة بهذا المقال الجميل الذي خص الموقع به
بسم الله.. والحمد لله.. والله أكبر..
ما زلنا مع لفظ «الصلاح» ومشتقاته.. فعلًا كان أو صفة، حيث تعرضنا فى المقال السابق لما حدث مع اليتيمين اللذين كانا أبوهما صالحا، فقد أعاد سيدنا الخضر بناء الجدار الذى كان يخفى كنزهما حتى يستخرجاه عندما يكبرا.
كما تعرضنا لما حدث لنوح وابنه، فعندما رفض الابن الاستجابة لأبيه، توجه الأب إلى ربه طالبا العفو، ولكن الله وصفه بالعمل «غير الصالح»، وأعاذ نوح أن يكون من الجاهلين.
وسبحان الله القائل فى كتابه الكريم (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) «القصص 55».
فهذا سيدنا إبراهيم الأواه الحليم، وأبو الرسل والأنبياء الذين بعثوا من بعده هداية للبشر أجمعين، يؤسس – بمعاونة ولده إسماعيل – الكعبة المشرفة فى قلب الصحراء الجرداء التى لم يكن بها زرع ولا ماء.
إبراهيم.. الذى وصفه ربه (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ)، والذى ولد فى العراق – فى أرض بابل وهى أرض الكلدانيين – كان أبوه آذر يهودي يجيد صنع التماثيل والأصنام من الأخشاب، ويبيعها لقومه الذين كانوا يعبدون الكواكب فى صورة أصنام.
فعندما شب إبراهيم ونضج عقله، بدأ يفكر فى الكون، معتقدًا أن وراء هذا النظام، خالق قادر على إدارته (َكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ) «البقرة 75»، فأخذ يختلى بنفسه فى المساء وينظر للسماء فيرى كوكباً فيعتقد أنه ربه، ولكنه يختفى، ويتكرر الأمر مع القمر المنير، ومن بعده الشمس المضيئة، ولاحظ أن كلهم يذهبون ولا يستمرون مع العباد لرؤية ما يفعلون من خير أو شر (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) «الأنعام».
وعندما جادلوه فيما انتهى إليه من نكران ما يعبدونه وكذلك بعدما رفضوا دعوته بالهداية وعبادة الواحد الخالق القهار.. كان تعقيبه حاسماً قاطعاً (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ).
ويتطور النقاش والجدال مع قومه وأبيه ويحذره (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فى ضَلالٍ مُبِينٍ) «الأنعام 74».
ومع ذلك ولأنه صديق نبى واصل دعوة قومه وأبيه للهداية، فيقول لأبيه ويذكره إنه يعبد أصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تغنى عنه شيئا، ويخبره أن الله منّ عليه بالعلم والبصيرة.. طالبا أن يهتدى ويعود لرشده ويتبعه، بدلا من اتباع الشيطان الذى يتسبب له فى العذاب الأليم، إذ يقول (.. يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً (43) يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً) «مريم».
ولكن الوالد الذى نشأ يصنع الأصنام «الآلهة» يعترض على ابنه مستنكرًا (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً)، واستمر الابن الصالح الذى منحه الله الرشد وملكة التفكير فى خلق الله، يستغفر لأبيه (قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً).
وإذا كان إبراهيم قد تسامح مع أبيه، فلم يتسامح فى حق الله، بأن يعبد لناس الأصنام من دونه، واعتزل أباه وقومه مع استمراره فى الدعاء بهدايتهم إلى الصواب!
ويسمع به ملك الكلدانيين «النمرود» ويستدعيه ليسأله من ربك؟ فيخبره إبراهيم أن ربى يحيى ويميت، فيدعى الملك أن لديه ذات القدرة، بالعفو أو الأمر بالقتل.
فيعقب إبراهيم منهيا للنقاش والجدل طالبا منه أن يأت بالشمس من المغرب، كما يأتى بها الله من المشرق.. فكانت النهاية، حيث بهت الذى كفر والتزم الصمت (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
ويعود إبراهيم لأبيه وقومه ويستمر فى جدالهم محاولًا إقناعهم، متسائلًا: ما هذه الأصنام التى تعبدونها وأنتم تصنعوها بأيديكم، فكان ردهم إنهم وجدوا آبائهم يعبدونها، فحذرهم من الاستمرار فى ضلالهم، ولكنهم أبوا الطاعة ومنعوه بالاستهزاء بآلهتهم (إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِى ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنْ اللاَّعِبِينَ) «الأنبياء».
فيحطم إبراهيم الأصنام التى لا تنفع ولا تضر ولا تحمى نفسها، حتى يريهم ضلالهم لعلهم يتوبون ويرجعون عما هم فيه من غى وضلال، ولكنهم يكتشفون فعلته ويعاقبونه بإلقائه فى النار التى أمرها الله أن تكون بردا وسلاما عليه.
وينجيه الله ويطلب منه ولوط بالهجرة إلى البادية «شرق الأردن» وينعم عليه بالذرية الصالحة من الأنبياء والرسل، (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ).
نعم الله يهدى من يشاء، وقد ضرب الله مثلاً بالذين آمنوا امرأة فرعون التى كانت تحت ملك كافر تطلب من ربها أن ينجيها، فقالت (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، وكذلك مريم ابنة عمران التى أحصنت فرجها وكانت من القانتين.
سبحانك بيدك الملك.. وأنت على كل شىء قدير.. ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.. واغفر لنا وأرحمنا.
فأنت القائل فى كتابك الكريم إنى قريب أجيب دعوة الداعى إذا دعانى.
شهيرة النجار