قال الشيخ بخيت المطيعي :
كنت أصلي الجمعة يوماً في مسجد سيدنا الحسين وكان ذلك قبل أن أتولى منصب الإفتاء وكان يجلس قريباً مني رجل من عمال كنس الشوارع واضعاً مكنسته بجواره، وبعد الصلاة أخذ يدعو فكان مما وصل إليه سمعي من دعائه، قوله: ( يا رب أنا تعبت ) وأخذ يتمتم بكلمات لم أحققها، فقلت في نفسي: الرجل يتضجر على ربه!! هذا لا يصح..صليت السنة فنظرت أتلمسه لأنصحه وأواسيه بشيء من المال فلم أجده، وأردت الانصراف فلما وضعت حذائي وانحنيت لأنتعله إذا بقدم شخص تدوس عليه، فرفعت رأسي فإذا هو الرجل الكناس، جذبني من كتفي الى أعلى برفق، اعتدلت فإذا ببسمته تنير وجهه، قال لي بلهجة رقيقة: جرى إيه يا ” سيدنا المفتي”!! أتعب ولا أرتاح مالك ومالي؟ هو ربنا كان اشتكى لك مني؟ ما تسيب الناس في حالها وخليك في حالك! ثم تركني فجأة واختفى بين الزحام، فلما أتممت لبس حذائي لم أجده!!
💢وما مر شهر حتى صدر المرسوم الخديوي بتعييني مفتياً للديار المصرية!
🟩 النَّفَحات الإلهية:
هي نسائم الرحمة التي يهبها الله لعباده في لحظات صفاء، يفتح بها لهم أبواب القرب، ويكشف لهم عن أسرار اللطف الخفي. وهي ليست مقصورة على الأولياء المشهورين، بل قد تشمل عبداً خفيًّا لا يُعرف في الأرض، ولكن عُرف في السماء.
🎍وقد قال رسول الله ﷺ:
«إن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها»
(رواه الطبراني والبيهقي).
فهي لحظات من النور والسكينة، قد تأتيك على هيئة موقف، أو كلمة، أو رؤية، أو حتى لقاء عابر كما في قصة الشيخ بخيت المطيعي مع عامل الكنس عند مقام سيدنا الحسين رضي الله عنه.
📜 القصة ومعناها الروحي:
روى الشيخ بخيت المطيعي رحمه الله أنه صلّى الجمعة بمسجد الإمام الحسين بالقاهرة، فرأى رجلاً من عمال الكنس يدعو بعد الصلاة بقوله: “يا رب أنا تعبت”، فظنّ أن في قوله اعتراضاً على القدر، ثم تبيّن له بعد الموقف أنه أمام عبد رباني من أهل الله الخفيين، الذين سترهم الله بستار البساطة.
فلما واجهه الرجل بقولٍ لطيف فيه إشارة دقيقة:
“هو ربنا كان اشتكى لك مني؟”
✍️أدرك الشيخ بخيت أن هذا الرجل من أهل الكشف والصفاء، وأنه من الذين نظر الله إليهم بعين القبول، وأن اعتراضه القلبي لم يكن إلا جهلاً بمرتبة هذا الولي المستور.
✍️وما هي إلا أيام حتى ارتفع شأنه وعُيّن مفتياً للديار المصرية، وكأن الله كافأه بأن جعله يرى كرامةً من كرامات عباده الخفيين، ليعلم أن الفضل ليس بالمظاهر بل بالقلوب.
🟩 النفحات الإلهية في القرآن الكريم:
القرآن مليء بآيات تُشير إلى هذه النَّفحات الربانية، منها قوله تعالى:
🔮﴿يُصِيبُ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: 105]
🔮﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156]
🔮﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـٰنُ وُدًّا﴾ [مريم: 96]
✍️فالنفحة هي رحمة مخصوصة، يهبها الله لعبده على قدر صدقه، وقد تكون ترقية في المقام أو كشفاً في البصيرة أو استجابة دعاء أو سكينة قلب.
🟩 في السنة النبوية
قال ﷺ:
🎍«ربَّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبرَّه» (رواه مسلم).
وهذا الحديث الشريف أصل من أصول معرفة “عباد الله الخفيين”، الذين لا تُعرف لهم مناصب ولا تُذكر أسماؤهم في المجالس، ولكن لهم عند الله شأن عظيم.
🎍كما قال ﷺ:
«إن الله يحب العبد التقيّ الغنيّ الخفيّ» (رواه مسلم).
فالرجل الكناس الذي رآه الشيخ بخيت مثال حي لهذا النوع من العباد الذين خفيت سيرتهم في الأرض، وظهرت أنوارهم في الملكوت.
🟩 في أقوال الأولياء والعارفين بالله:
🍁قال الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه:
“إن لله عباداً إذا نظروا، رحم الله بهم الخلق، لا يتكلمون ولا يُعرفون، لكن الله يُجري بهم الخير في الأرض.”
🍁وقال سيدي أحمد الرفاعي:
“ربَّ فقيرٍ في خرقةٍ باليةٍ، يطأ بقدمه تاج الملوك في حضرة الله.”
🍁وقال سيدي ابن عطاء الله السكندري في حكمه:
“ربما فتح لك باب الطاعة وما فتح لك باب القبول، وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول.”
فهؤلاء العباد لا يعرفهم الناس، لكن يعرفهم الحق، لأن القلوب عند الله بمقدار صفائها لا بمقدار جاهها.
🟩 في أقوال العلماء والفقهاء:
🍁قال الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين:
“العبد إذا أخلص لله طويًّا، جعل الله له فيضًا من رحمته يُدرك به من الحقائق ما لا يُدركه العلماء بالدرس.”
🍁وقال السيد الجرجاني في التعريفات:
“النفحة الإلهية هي ما يرد على القلب من لطفٍ ربانيٍّ يقرّبه من الحضرة ويُبعده عن رؤية نفسه.”
🟩 قصص حقيقية مشابهة:
🍁سيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه، حين رأى رجلاً فقيراً ينادي: “اللهم أغثني”، فبكى وقال: “ما هذا الفقير إلا رسول أرسله الله ليذكّرني بحالي مع ربي.”
🍁الإمام الشافعي رحمه الله، كان يقول: “ربَّ كلمة قالها فقير في السوق كانت أبلغ في قلبي من ألف درس في العلم.”
🍁الشيخ عبد الوهاب الشعراني يروي في الطبقات الكبرى عن أحد الصالحين أنه رأى فقيراً نائماً على قارعة الطريق، فهتف هاتف في قلبه: “هذا من أهل الله الذين يستحيي الله أن يعذبهم، لأنهم فقراء في الناس أغنياء بالله.”
🟩 الدلالة الصوفية للقصة:
📜القصة تُظهر مقام الولاية الخفية، وهي من أعظم مقامات أهل التصوف.
فالولي المستور يعيش بين الناس كأحدهم، لكن قلبه في الحضرة، يسمع بإذن الله، ويرى بنوره، ويعرف دقائق أحوال النفوس.
وقد يكون من عمال الكنس، أو من الفقراء، أو من المساكين، لكن الله أكرمه بما لم يُكرم به أهل المناصب والجاه.
🟩 الخاتمة الروحانية:
يا من تبحث عن النفحات، لا تنظر إلى منازل الناس ومظاهرهم، فإن الله قد يضع سره في أضعف خلقه.
كن لين القلب، طيب السريرة، كثير الذكر، متعرضاً لنفحات الله في الليل والنهار.
فرب كلمة تسمعها من فقيرٍ تفتح لك باب القرب، ورب نظرة من وليٍّ خفيٍّ تغيّر مجرى حياتك.
🎍 “تعرضوا لنفحات ربكم، فإن لله في كل لحظة نفساً من رحمته يُصيب بها من يشاء.”
💥اللهم صلِّ وسلم وبارك على الحبيب المصطفى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
شهيرة النجار



and then