يحكى عن رجل فقير غلبان إسمه بشير، لا يكاد يجد قوت يومه. كان يسعى للرزق من فجر يومه إلى أن يغطيه الليل ومرت السنون لم يستطع خلالها أن يتزوّج بمن تؤنس وحدته حتى ضاق به الحال وأعيته الحيلة، وكره الفقر . وفى أحد الأيام حاول أن ينهي حياته ويرتاح من النكد والحرمان. سار دون هدى حتى وصل إلى جبل، ووجده مليئا بالناس يولولون ويندبون حظهم، ورغم أنه كان يائسا إلا أنّ منظرهم كان مثيراً للشفقة وللعجب. فأخذ يسألهم عن حالهم ،وهم لاهون عنه، تائهين لا يسمع منهم إلا تمتمه حزينة “ياريت اللى جرى ما كان” …. فظل الرجل ينتقل بينهم حتى وصل إلى أقربهم من حافّة الجبل وحينما ألح فى السؤال أمسك به، وقذف به إلى أسفل،ووعندما أفاق وجد نفسه فى مدينة لا مثيل لجمالها ،وإندهش لنظافة أزقتها ،و لبيوتها الناصعة البياض، وحسن هيئة أهلها. فجأة جاء أحدهم واستقبله بحفاوة وأخذه إلى كبيرهم ،وكان رجلاً بشوشا لا يبدو عليه عمر أو مر عليه زمن ،رحّب به وشرح له كيف يمكنه العيش فى مدينتهم. فشكى له الفقير من ضيق حاله وانعدام أمواله، ولكن الكبير طمأنه أن المال ليس هو العملة التى يتعاملون بها. بل أن عملتهم فى البيع والشراء وسائر المصالح هى “الصلاة على النبى” فتعجّب الفقير ولم يصدّق ما سمعه، و أشترط الكبير عليه حتى يستطيع العيش بينهم أن يتزوّج منهم، لكن سأله الفقير إن كانت الصّلاة على النّبى تكفي للزّواج؟ فأكّد أنّه لا يحتاج لشيء آخر. هلّل الفقير وكبّر، وقال كيف ذلك وهو لا يعرف أحدا فى هذه المدينة، أجاب الكبير :في وسط المدينة هناك ساحة مليئة بالحسناوات … العذراء منهم تحمل “طبق ملئ بالتفاح” ومن سبق لها الزّواج كانت تحمل ” إبريق ماء ” ومن تعجبه منهنّ ،فعليه أن يأخذ ممّا تحمل، وعندئذ ستصحبه الفتاة إلى ولىّ أمرها. كاد الفقير يطير من الفرحة، فأخيرا سيتزوج ويجد جارية تقاسمه طعامه وفراشه، وذهب من حينه إلى ساحة الزواج، وما أن جال بنظره وسط الجواري، حتى إبتسمت له إحداهن، وكانت رائعة الجمال قال في نفسه: هذه تليق بالسلاطين، فكيف ستقبلني، وأنا الفقير المعدم، الذي يشتهي أن يشبع من الخبز؟ وعلى استحياء أخذ تفّاحة ،فأومأت إليه أن يتبعها إلى دارهم، وسارت على مهل وهو وراءها ،يقدّم خطوة ويأخّر أخرى ،حتى وصل ،تردّد في الدّخول، فكيف سيقابل أهلها وهو في هذه الحالة المزرية؟ وهمّ بالرّجوع، لكن خرج أبوها ،ورحّب به، ودعاه إلى الدّخول، وقال له: مهر إبنتي نوسة غالي، عليك أن تكتب ألف صلاة على النبي في صحيفة تقدّمها لي ،هل يناسبك ذلك؟ قال: نعم ..نعم، تعجّب أن يكون ذلك في منتهى السّهولة ،ولكن أباها أشترط شرطاً وحيداً كى يكملا حياتهما وهو الا يتدخل فيما لا يعنيه، فوعده بكلّ خير. في الغد ذهب إلى الحمّام، واشترى ثياباً جديدة وعمامة أنيقة، وبصحيفة فيها خمسين صلاة على النبي ،وأشتري بيتا فخما وأثثه، كل ذلك بالصلوات على النبي، كان بإمكانه أن يحصل على كل ما يشتهيه، كل ما عليه أن يفعله، هو أن يأخذ صحيفة ويكتب عليها صلواته ولكثرتها كانت المدينة مباركة، وخيراتها كثيرة، وينعم أهلها
بالسعادة ..
بشير ونوسة العروسة الجزء الثاني
عاش بشير لعدة سنوات وكأنه فى جنة الله على أرضه حتى بدأ يزحف على حياته الملل آفة البشر فطلب أن يخرج عله يجد فى صحبة الناس بعض التغيير الذى يحتاج إليه فحاولت إمرأته نوسة أن تثنية عن رغبته فلم تفلح فذكرته بوعده لأبيها بألا يتدخل فيما لا يعنيه فطمأنها وخرج تملأه رغبة فى مخالطة الناس والاستئناس بهم فأخذ يلقى التحية يميناً ويساراً ورغم طيبة القوم وبشاشتهم إلا أنه لم يجد من يتكلم معه فالكل منهمك فى شغله فواصل السير حتى وجد عجوزاً قصير القامة يلتحف بالبياض يتسلق شجرة عظيمة تعجب لحيوية الرجل وسرعته. وإستغرب لما يفعله فقد كان العجوز يقطف الورقة الخضراء من الشجرة يتأملها ويأكلها ثم ينزل إلى الأرض ويلتقط واحدة جافة صفراء ويأكلها أيضاً. وقف بشير ينظر إليه يصعد حينا إلى الشجرة وحينا آخر ينزل حتى أشفق عليه التعب فبادره بالسلام ونصحه أن يقطع فرعاً من الشجرة ويأكل الأوراق الخضراء ويترك الذابلة فقطب الشيخ جبينه وأمره أن ينصرف. وحينما رجع إلى بيته وجد زوجته حزينة وأخبرته أنه قد طلقها فأقسم أنه لم ينطق بالطلاق وكان لابد أن يذهب إلى أبيها وهناك أخبره أنه أخل بشرط الزواج وعليه أن يرد اليمين ويتبقى له طلقتان فقط. فاستسلم بشير ورد اليمين الذى لم يصدر عنه. وواصل حياته مع إمراته لا يعكر صفوها شيء حتى إنتابه الشوق مرة ثانية لمخالطة الناس و خرج رغم تحذيرها وحاول أن لا يتدخل فى شئون غيره وتجول في المدينة الجميلة حتى قابل رجلاً يقف على بئر عميق يمسك فى يده دلوا صغيراً فيملاه مرة لنصفه ومرة أخرى لحافته ومرة ثالثة يخرجه فارغاً وفى كل مرة يفرغ ما يملأه فى بئر آخر بجانبه فلم يستطع أن يتمالك نفسه عن لنصيحة ووقف يشرح للرجل كيف إنه لو أوصل بين البئرين قناة صغيرة لأجرى الماء بينهما وإستراح من التعب لكن الرجل إستنكر كلامه ولامه على التدخل في أمر لا يعنيه. رجع بشير إلى البيت وثارت نوسة في وجهه وقالت لقد أصبح الطلاق عندك لهوا وغادرها ثانية إلى والدها وأرجع اليمين الثانى وحذره الوالد فلم يبق الإ يمين واحد إذا أوقعته فهو الفراق. تشائم بشير من كلام أبيها.. لكنه كان حريصاً على البقاء مع نوسة لأنه يحبها ويعشقها وتسير الحياة بهما هانئة وحرصت الجارية أن تلهيه عن أهل المدينة وينسى لفترة طويلة حتى قرر أن يخرج للمرة الثالثة حاولت منعه وقالت له ستندم لكن أجابها لقد فهم الدرس ولن يتكلم مهما حصل عانقته وقبلته وقلبها يخبرها أنه لن يعود تردد بشير في الذهاب لكن رغبته في الخروج كانت أقوى من كل شيء وسار فى أنحاء المدينة يستمتع بكل ما فيها وفي كل مرة يحاول أن يتكلم كان يتذكر الشرط المحرم حتى أخذته قدماه ناحية البحر ولم يكن يعرف أن بالمدينة بحرا فوجد على شاطئه سفينة ضخمة وجمعا غفيرا من الناس يصطفون على جانبيها كل منهم يشد السفينة ناحيته و يحاول بكل قوته وكل رغبته والسفينة راسخة على الشاطئ لا تزحزح لأحد .. كاد أن يمشى دون أن يعلق على تصرفاتهم الغريبة لكنه لم يستطع ونسي وعده لنوسة بالعودة إليها دون أن يحشر نفسه في مشاكل الناس …
حكاية بشير ونوسة العروسة من حكايات زمان لا تتدخل فيما لا يعنيك الجزء الأخير
هتف بشير يا قوم لابد أن تتعاونوا جميعاً حتى تستطيعون زحزحة السفينة فلنجتمع جميعاً فى ناحية ونحاول بكل قوتنا أن نشدها إلينا.
لم يلتفت إليه أحد أو يعيره اهتماماً.
عندما أتم كلامه أحس بالندم ولام نفسه.
و أحس بحزن يعتصر قلبه جرى إلى بيته وهو ينوي أن يعتذر لكنه حينما وصل لم يجد لا البيت ولا نوسة
. فأسرع إلى كبير المدينة يستنجد به فأخبره أنه طلق إمرأته وأنه لم يستطع الحفاظ على وعده لها ولأبيها وهذا شرط البقاء معهم وظل بشير يقسم أنه أراد فقط إسداء النصح ولم يتدخل في شأن أحد وحاول أن يسترضى الكبير لكن قال له ليس لذلك فائدة فأمر الله نفذ والنصيب أنتهى ولابد للمكتوب أن يصير ..
. بهت بشير لكنه طالب أن يفهم فذكره كبير المدينة بالمرات التى خرج فيها
وقال وفى جولتك الأولى وجدت العجوز يأكل من الشجرة فنصحته أن يقطع الفرع بأكمله فأجاب بشير نعم لقد رأيته وأشفقت عليه من الشقاء فما هو الخطأ في ذلك يا سيدي أجاب الكبير إنه ملك المۏت و الورقة التى يأكلها إنما هى روح فاضت لخالقها سواء كانت خضراء صغيرة السن أو صفراء بلغت آخر العمر وتدخلت أنت في أقدار الناس وكنت تريده أن يقطع فرعاً بأكمله مليئا بأرواح البشر. أحس الرجل بالخيبة من نصيحته فقد تكلم بما ليس له علم به.
طأطأ برأسه وسأل والطلاق الثانى كيف وقع ؟
فقال له الكبير الرجل الذى كان يجلس على البئر يوزع الماء على البئر الآخر هو قاسم الأرزاق فهناك من يملأ له نصف الدلو وهناك من يملأ له الدلو كاملاً وهناك من ليس له رزق فكيف تتدخل فى أرزاق الناس وأسقط فى يد الرجل ولم يجد ما يقوله فلم تكن نصيحته إلا سوء تدبير منه.
واصل الكبير توبيخه واليوم ألا تذكر ما فعلت ألم تجد غير السفينة وناسها لتتدخل في شؤونهم فحاول أن يدافع عن نفسه وقال ولكنى أصدقتهم النصيحة لقد كانوا يضيعون جهودهم!!!
قال الكبير وهو يتحسر على جهل الرجل يامسكين!!! السفينة هى الدنيا وكل من هؤلاء الناس يحاول أن يأخذها لنفسه وكل منهم يتخيل أنها تأتي ناحيته ولكنها ثابتة لا تذهب لأحد وسيظل الناس يحاولون معها ولن يرتاحوا ويكررون والجهد المضني ليفعلوا شيئاً مع الدنيا.
هكذا هى الدنيا وأنت لم تستطيع أن تفهمها أو تفهم ناسها والأن قضى الأمر..
وضع بشير رأسه بين يديه وبكى على نوسة ولما رفع رأسه نظر حوله وجد نفسه في الجبل مع الناس الذين يولولون يبكى مثلهم ويتمتم مثلهم يا ريت اللى جرى ما كان.
رغم دموع الرجل وولولة الناس والحسړة على نوسة الجميلة أحببنا الحدوته ولم يكن العويل هو ما نرتاح إليه .. لكن الجنة التي نزل فيها وجعلنا نحلم بالحورية واسعة العينين والحياة الناعمة و عايشنا رجوع الرجل إلى دنياه مرة أخرى وحتى ندمه على ذلك …. ليس شماته … لكنه رجع لينضم إلينا على نفس الحافة من الدنيا ننتظر الجنة التى نشتهي كلنا أن نذهب إليها مثلما حدث معه. ما هو مؤكد أن لا أحد منا جاهز للرحيل إليها مازال الكثير لنفعله حتى تنفتح بصائرنا وتصفو قلوبنا وتصح أحكامنا حينئذ تكتب لنا الحياة الأبدية في الجنة ..آمين يا رب العالمين .. أتمنى أن تكون الحكاية قد أعجبتكم .
شهيرة النجار