طعام مجانى طوال العام بالإسكندریة
صدق كل شىء، فأنت تعیش فى مصر أرض الأنبیاء، أرض موسى، التى أوى إلیها عیسى ومریم العذراء، وتزوج منها محمد، وخرجت منها زوجة أبو الأنبیاء إبراهیم، لتنجب أبوالعرب سیدنا إسماعیل مصر، التى لا تزال الأرض الطیبة، التى أوصى الرسول بأهلها ولم تكن الوصایة من فراغ، فهو لا ینطق عن الهوى، إن هو إلا وحى یوحى.
كل عام وأنتم بخیر، أول أعداد شهر الخیر والبركة، لذا، سأحكى لكم قصة «باب الخیر»، لكن بدایة.. أنوه إلى أن ما سأسطره لیس دربا من الخیال، ولا نوعا من الجموح بالعقل مع القارئ العزیز، وإنما هى حكایة حقیقیة، أبطالها بشر لحم ودم، أصدقاء لى وتجادلنا قبل كتابة تلك السطور، حول عدم ذكر أسمائهم أو حتى نشر صورهم، كى لا یضیع أجرهم.
- “8” سنوات
وحدها المصادفة جمعتنى ببطلة القصة منذ ثمانى سنوات، عندما كان ابنى وابنتها فى الفصل الدراسى فى «كى جى»، قربتنا حكایات الأولاد، كبرا معا ونشآ فى مدرسة واحدة وناد واحد.
كانت دینا هشام واحدة من الأمهات، أول ما لفت انتباهى لها منذ رأیتها جمالها الساحرالناعم، ورغم أنها محجبة إلا أنها تتمیز بأناقة متناهیة وقوام «ولا أجدع» عارضة أزیاء، دائما أنادیها «البسكوتة»، وكانت تقضى معظم وقتها فى البحث عن المحتاجین ومساعدتهم، مرت بأزمة كبیرةً جدًا منذ سنوات، فحولت الأزمة لفكرة، وفتحت بیوت ناس وعالجت الكثیرین، من خلال تأسیس جمعية باسم الراحل والد بناتها والحقیقة، هذه الجمعیة هى المكان الوحید تقریبا الذى أثق فى وضع أى تبرع به، لثقتى فى دینا ومعرفتى بشخصیتها عن قرب، وأنها تضع الجنیه فى مكانه الصح، ودائما ما تدعونا من خلال الجروب لتوجیه الخیر لمستشفى جدید لسرطان الأطفال، توجهنا أن نساعد فى جمع مبلغ لشراء جهاز طبى، وهكذا.
- “لوجه االله”!
منذ أسبوعین تقریبا، كتبت لنا على الجروب، أن لدیها فكرة تحاول تنفيذها، وهى استئجار مكان لطهو طعام وتقدیمه للمحتاجین على مدار العام، بحیث لا یكون ذلك فى شهر رمضان فقط، كما یحدث فى كل عموم مصر، فى شهر البركة من «موائد الرحمن».
وأوضحت دینا أن المكان سیقوم على التبرعات، ما یعنى أن «اللى یحب یشارك» بتبرع مادى تمام، أو من یحب المشاركة بتبرع عینى من مواد الطعام سیكون على الرحب والسعة.
أنا شخصیا تلقیت الموضوع دون اهتمام، حتى فوجئت بها ترسل لنا منذ خمسة أیام، أنها افتتحت المكان بعدما حولت الفكرة لواقع، وفجأة، فى خلال ساعات، وجدت كثیرین من بینهم زوجى یسألنى: «إیه باب الخیر دا اللى مفتوح وبیأكل الناس»، قلت له هو لحق یوصل لك الخبر؟
- مجانا
هنا، أدركت أن ید الله كانت مع تلك السیدة التى فعلت شیئًا فشلت مؤسسات كاملة فى تحقیقه لأعوام، بل وبدون «طنطنة» أو إنزال صورة لها، حققت الهدف «تعالوا نأكل الغلابة بروتین»، لم تفعل مثل بعض الجمعیات ورجال الأعمال، الذین یلتقطون الصور بجانب كراتین السكر والزیت التى یمنحونها للبسطاء، لیتحولوا لـ«أهل الخیر»، رغم أن هذه الكراتین ثمنها یكون إما مخصوما من ضرائبهم أو تبرعات، لم تفعل دینا ذلك، إنها تعمل فى صمت.
- الخلاصة
كلمت دینا: تعالى من فضلك احكى لى بالتفصیل إیه الحكایة؟، قالت الموضوع كله بدأ منذ شهر، عندما وجدت صفحة على «فیس بوك» اسمها «تكیة الرحمن» فى منطقة الدراسة، تقوم بتوفير الطعام بالمجان یومیا لكل الفقراء والمحتاجین، اتصلت بصاحب الفكرة، فعلمت أنه مهندس طبق الفكرة منذ عام تقریبا، بعدما قرر أن یفعل شيئا لوجه االله، یستثمر فیه جزءا من وقته، كصدقة.
وحكى المهندس الفكرة لأصحابه، وجمع تبرعات واستأجر مكانا وطاهيا ومعدات، وبدأ التنفيذ، حیث يتم طهو الطعام یومیا، المهم یكون فیه بروتین، ثم أكد لها، أن مولانا الشیخ الشعراوى كان یقیم الفكرة نفسها یومیا بالسیدة نفیسة، ولما توفى حرص أولاده أن یكون المكان مفتوحا كما هو، وخاصة أن هذه الفكرة كانت موجودة منذ زمن، قبل «80» عاما فى مصر، وكانت تحت مسمى التكیة، بدأها محمد على باشا وتبعه بعد ذلك كل خلفائه.
وانتشرت فكرة التكیة فى كل ربوع البلاد قدیما، حتى أطلق على من یتناول طعامه بها الدراويش ثم تطور الأمر إلى «تنابلة السلطان»، لكن الفارق أن التكیة كانت تقدم الثلاث وجبات.
- “الدراویش”
أما فكرة «باب الخیر بالدراسة» فتقدم وجبة الغداء الرئیسیة فقط، على الفور، اختمرت الفكرة فى عقل دینا، وحكت لزوجها، طبیب أسنان شهیر، زیاد الشرقاوى، حفید معلم الأجیال محمد ذكى العشماوى، أستاذ بكلیة الآداب جامعة الإسكندریة، وكان مشرفا على رسالة الدكتوراه للسیدة جیهان السادات، وقت أن كانت السیدة الأولى فى حقبة السبعینیات من القرن الماضى. دینا قصت فكرتها على زیاد، آمن بها حكى لاثنين من أصدقائه آخرین، فكان القرار یوم 10/4 الماضى، بالبحث عن مكان لتكون حقًا وصدقًا النیة الصادقة، وبالفعل، وجدا مكان «20» مترا فى شارع متفرع من كورنیش البحر بكلیوباترا، توصلا لأن یكونا الإیجار «1500 «جنیه، رقم لا یذكر مع ارتفاع الأسعار ونوعیة المكان، لكن ربنا أراد أن یبدأ الاثنان الخطوة التالیة.
ثم وجدا متبرعة قررت أن تدفع ثمن الإیجار شهریًا مدى الحیاة، بعد ذلك، جاءت خطوة التجهیز، حلل وأوانى ومستلزمات، وساعدهم المهندس الصدیق فى ذلك، أما الخطوة الأخیرة فكانت إیجاد طاهى ومساعد، ربنا دلهم على طاه شهیر بناد كبیر، أجره مع مساعده «4000» جنیه هذا مبلغ زهید للغایة، شیف محترف یطهو «30» یوما كل شهر بهذا الرقم «إیه الحلاوة دى» ثم شراء الأطباق التى یتم التجهیز فیها وعمل منیو یومى، لیكون قرار الافتتاح منذ أربعة أیام من كتابتى تلك السطور قبل رمضان، بتقدیم «200» وجبة مطهوة یومیا.
أول یوم ربع فرخة ومكرونة بشامیل وسلاطة ومخلل وفاكهة، الیوم الثانى أرز أصفر وفراخ وبطاطس، الیوم الثالث كبدة ومكرونة بالصوص الأحمر، وهكذا، زیاد ودینا غیر مصدقین ما حدث، أن یحدث كل هذا فى أقل من شهر، وحتى الآن لم یشتریا شيئا من دجاج أو أرز أو مكرونة كله جاء لهم تبرعات، عندهما الفكرة غیر تكیة الدراسة، إزاى؟ هما یتمنیان أن يزید عدد الوجبات لتصبح ألف وجبة، لكن البدایة حلوة، فى رمضان قررا عمل «50 كرسى مائدة رحمن وتوزیع الـ«150» وجبة لمن یتعففون عن الطلب من المسنین الفقراء داخل بیوتهم. وتم استحضار موتوسیكل للتوزیع، لكن، الیوم یكلف كام؟ رد زیاد 3 آلاف جنیه تكلفة الیوم، تقريبًا.
هذا ربك لما یرید أن یفتح طاقة خیر لعباده البسطاء.
لسه فیها حاجة حلوة وناس أحلى، أدعو كل أهل خیر إسكندریة، مدوا أیدیكم ولو بجنیه، حتى تستمر تلك الطاقة عامرة طوال العام وتتسع، الأجمل إن ناس من محافظات مختلفة كلموها وطلبوا منها نقل الفكرة وكیف ینفذونها، وآخرون من أهل إسكندریة قرروا ینفذوا الفكرة فى مكان آخر. لن أقول إن تكلفة الیوم لإطعام «200 «شخص بأفضل طعام مطهو ثمن أكلة سمك لأسرة مكونة من أربعة أفراد فى مكان متواضع أو ثمن سهرة أو فستان، أغرب شىء قاله الدكتور زیاد، إن الناس التى تأتى لأخذ الوجبة غیر مصدقة أن الأكل سلیم، فیطلبوا من زیاد الذى یقوم بالتوزیع قبل أن یتجه لعیادته أن یتناول قبلهم.
ونكمل باب الخیر العدد القادم بإذن االله تعالى..
شهيرة النجار