وذات يومٍ – من صيف سنة 1916م – خطرت للريحاني فكرة جديدة، في وقتٍ حلَّ به الإرهاق بِسبب جُهوده المُستميتة، وانتابه فيه إحساسٌ مريرٌ بالخيبة لِأعراض الجُمهور عنه.
وكانت هذه الفكرة هي شخصيَّة «كشكش بك». وقد تضاربت الآراء في تفسير نشأة هذه الشخصيَّة. فبعض الباحثين قال أنَّ الفكرة مأخوذة عن الكاتب أحمد شفيق المصري، وقال آخرون أنَّ «كشكش» هذا مُستوحى من شخصيَّةٍ «ساتيريَّة» تحملُ نفس الاسم، جاء ذكرها في صحيفةٍ معروفةٍ في تسعينيَّات القرن التاسع عشر الميلاديّ، وهي «حمارة منيتي».
وهُناك رأيٌ ثالث يُرجع شخصيَّة كشكش إلى عُمدة مُشابه جاء ذكره في كتاب «حديث عيسى بن هشام» الذي ظهر سنة 1907م. وتقول روز اليُوسُف إنَّ الريحاني أخذ شخصيَّة كشكش من ميلودراما قصيرة بِعنوان «القرية الحمراء» أخرجها عيد سنة 1917م. واسم «كشكش» – كما قالت روز اليُوسُف – هو اسمُ التدليل الذي كانت تُنادي به الريحاني صديقته الفرنسيَّة «لوسي دي فريزني».
أمَّا الريحاني نفسه فقال أنَّهُ ابتكر شخصيَّة كشكش من خِلال تجارُبه مع عُمد الريف، فكثيرًا ما كان يلتقي بهم في أثناء عمله بالبنك الزراعي، عندما كانوا يترددون عليه لِلحُصول على قُروض، بعد فقدهم أموالهم أو تعرُّضهم للاحتيال في المدينة، على أن تُسدد القُروض بعد عودتهم إلى قُراهم أو تُقيَّد كدينٍ يُخصم من ثمن محصول السنة التالية. فخطر بباله أن يبتكر عُمدةً عجوز شهواني، محبوبٌ لِطيبته وسذاجته ومرحه وشغفه بالحياة، يرتدي الجبَّة والقفطان والعمامة، وفد حديثًا من الريف إلى القاهرة وبجُعبته الكثير من المال، فالتفَّ حوله فريقٌ من الحِسان أضعن ماله، وتركنه مُفلسًا، فيعود إلى قريته يعضُّ بنان الندم، ويُقسم أغلظ الأيمان بأن يعود إلى رُشده، وألَّا يعود إلى ارتكاب ما فعل. فهو إنسانٌ فيه براءة الريفيين وخفَّتهم الفطريَّة، وعلى الرُغم من مكره ودهائه إلَّا أنَّهُ بريءٌ من زيف المدينة وخداعها ونفاقها.
من تلك السنة – كتب الريحاني وأخرج أولى مسرحيَّات «كشكش بك» بِعنوان «تعالي لي يا بطَّة»، التي استغرق عرضها عشرين دقيقة، وكان يشعرُ بالقلق الشديد مخافة فشلها.
ولكن لم يكن هُناك ما يدعو للقلق، فقد ابتهج جُمهُور حفل الافتتاح، ورفع روزاتي أجر الريحاني الذي تعهَّد بِإخراج مسرحيَّة جديدة كُل أُسبُوع. فأخرج بعد «تعالي لي يا بطَّة» مسرحيَّتيّ «بِستَّة ريال» و«بُكره في المشمش».
وسُرعان ما ذاعت أنباء هذه المسرحيَّات وتهافت الناس على مُشاهدتها، ممَّا دعا روزاتي إلى فرض رسم لِدُخول الملهى، كما رفع أجر الريحاني إلى سبعة وعشرين جُنيهًا في الشهر.
وتألَّفت مسرحيَّات الريحاني المُبكرة من أحداثٍ كوميديَّة بسيطة، تتخلَّلُها أغانٍ ورقصات، وحوارها مزيجٌ من العربيَّة والفرنسيَّة والإنگليزيَّة، بحيثُ يقع سوء تفاهم لفظي مُضحك. ويُعدُّ هذا الأُسلوب من أهم عناصر الإضحاك في المسرحيَّات الفرانكوعربيَّة. وقد كان حفل السهرة عبارة عن عرضٍ حافل بالمُنوَّعات، واشتمل القسم الأوَّل منهُ على عُروضٍ راقصة، وأغانٍ إفرنجيَّة، وينتهي بِمسرحيَّة كشكش بك. وكان عرض الملهى الترفيهي يستمر من حوالي الساعة التاسعة مساءً حتَّى مُنتصف الليل. وقد لاحظ الريحاني أنَّ المقاعد كانت تمتلئ تمامًا في الساعة الحادية عشرة، وهو موعد بدء المسرحيَّة.
ولمَّا كانت تقاليد ذلك الوقت لا تسمح للنساء بارتياد الملاهي أو المسارح بِصُحبة الرجال، فقد فكَّر روزاتي في تقديم حفلات نهاريَّة خاصَّة بالسيدات، كما كان مُتبعًا في المسارح. وفي مُنتصف شهر (أكتوبر)، ظهر إعلانٌ في جريدة الأهرام ينص على أنَّ إدارة الملهى ستعرضُ مسرحيَّة «بُكره في المشمش» خصيصًا للسيدات يوم 17 (أكتوبر)،وأنَّ المُؤلِّف ومُؤدي دور كشكش بك هو «نجيب أفندي الريحاني». فكانت تلك أوَّل مرَّة يظهر فيها اسم الريحاني في الصُحف، فسُرَّ سُرورًا كبيرًا ولم يُصدِّق ما رآه بادئ الأمر، فقام بشراء أكثر من عشر نُسخ من الجريدة، تعمَّد أن يضع إحداها مفتوحة على الإعلان أمام والدته في صباح اليوم التالي، غير أنَّها نظرت إليه بامتعاض بعد أن قرأت الإعلان، ووضعت الجريدة جانبًا ولم تُعلِّق، ما زاد من حُزنه وإحساسه بأن نجاحه لم يكتمل بعد، فهاهو اسمه في أكبر جريدة مصرية، مكتوبٌ إلى جوار الباشوات والوُجهاء، لكنه لم يزل في نظرها «مُشخصاتي».
تطلَّب إخراج مسرحيَّة جديدة – كُل أُسبوع – جُهودًا شاقَّةً من الريحاني. غير أنَّ شعبيَّة هذه المقاطع الاستعراضيَّة، جعل عرضها يمتد إلى أُسبوعين، ممَّا أتاح لِلمُؤلِّف المُخرج المُتعب فُرصة الرَّاحة. ومع ذلك فكَّر الريحاني في الاستعانة بِأمين صدقي، مُترجم فرقة عزيز عيد،
كما قام بِتنمية فرقته الصغيرة المُؤلَّفة من استيفان روستي وعبدُ اللطيف المصري بأن ضمَّ إليها: كلود ريكانو وعبدُ اللطيف جمجوم، وهُما من فرقة عيد القديمة.
وكان صدقي كاتبًا موهوبًا، غزير الإنتاج، ابتكر عدَّة شخصيَّات منها «أم شولح» حماة كشكش بك، التي كان يُؤدي دورها بنفسه. وفي أواخر سنة 1916م، قدَّم الريحاني أربع مسرحيَّات جديدة، هي على التوالي: «خلِّيك تقيل!»، و«هزِّ يا وز»، و«إدِّيلو جامد»، و«بلاش أونطة».
وكان للمسرحيَّة الأخيرة أثرٌ في ذاكرة الريحاني من حيث أنها خففت عنهُ بعض حُزنه جرَّاء عدم شُعور والدته بالفخر من إنجازاته، فبينما كان يتنزَّه في حديقة الأزبكيَّة في إحدى الأيَّام سمع مُصادفةً من بعض النساء المُتنزهات – اللواتي يبدو إنهنَّ كُنَّ من بين من حضرن الرواية – لحنًا كُنَّ يُنشدنه من ألحان رواية «بلاش أونطة»، وما أن انتهين حتَّى تعمَّد أن يمشي أمامهنَّ، فسمعهنَّ يُشرن إليه ويتحدثن عنه، وما إن ابتعد عنهنَّ حتَّى وقف ونظر خلفه وقال: «تعالي يا أُم توفيق اسمعي. شوفي الأملة اللي فيها ابنك المشخصاتي… النَّاس بتشاور عليه في الشَّارع».
صادفت مسرحيَّات الريحاني سالِفة الذِكر نجاحًا كبيرًا، حتَّى أنَّ ملهى «الكازينو دي پاري» بادر بِتقليدها، وعندئذٍ أصرَّ الريحاني على رفع أجره. لكنَّهُ حين طلب زيادةً أُخرى – قدرُها ثلاثة جُنيهات – رفض روزاتي، فترك الريحاني «الأبيه دي روز».
ولم تكن قد انقضت عدَّة أشهر – من أواخر الصيف إلى أوائل الشتاء – حتَّى ارتقى الريحاني من مُمثل صغير إلى مُؤلِّف مشهور ونجم لامع، وعلى أثر ذلك قرَّر أن يعمل لِحسابه الخاص
في مسرح [الرينيسانس]
نظَّم الريحاني فرقته، بِوصفه مُمثلًا – مُديرًا، وانتقل إلى مسرحٍ صغيرٍ سعة مائتي مقعد يقع في شارع بولاق، هو مسرح «الرينيسانس» الذي كان ملكًا لِيُونانيّ يُدعى «ديموكُنگس»، وكان يستثمرُ أموالهُ في الفرقة. وقد وكَّل إليه الريحاني مُهمَّة الإشراف على ميزانيَّتها، نظير حُصوله على نسبةٍ مُرتفعة من الأرباح. وارتفع أجر الريحاني إلى 120 جُنيهًا في الشهر.[35] وفي 18 (ديسمبر) 1916م المُوافق فيه 23 صفر 1335هـ، بدأت مرحلة جديدة من حياة الريحاني الفنيَّة كمُمثل ومُدير فرقة، ففي هذا اليوم نشرت جريدة الأهرام إعلانًا مفاده أنَّ الريحاني مع جوقه سيعرض رواية «إبقى قابلني!» في «تياترو الرينيسانس»، وأنَّ هذه الرواية «قابلة لِحُضور العائلات والسيِّدات» كونها عبارة عن «تسلية بريئة» لا أكثر.
وقد أدرك الجُمهور مغزى عنوان المسرحيَّة الأولى «إبقى قابلني!»، وهو فيما يبدو عديم المعنى، إلَّا أنَّهُ يتهكم علنًا من روزاتي، الذي كان يُريد أن يمنع الريحاني من أداء شخصيَّة «كشكش بك» بِدعوى أنَّهُ – أي روزاتي – هو صاحب هذه الشخصيَّة بِحُكم أنها ظهرت أولًا في «الأبيه دي روز»، لكنَّ المحكمة رفضت دعواه.
وقد مُثِّلت «إبقى قابلني!» في شهر (يناير)، ثُمَّ تلتها «كشكش في باريس» في فبراير)، و«أحلام كشكش بك» في (مارس)، ثُمَّ «وداع كشكش بك»، و«وصيَّة كشكش بك» في (أبريل)وهُنا انتهى عقد الريحاني بِمسرح الرينيسانس،
بعد أن استغرق عمله فيه أربعة أشهر، وكان موسمًا على قدرٍ كبيرٍ من الأهميَّة، لأنَّ المسرحيَّات التي عُرضت فيه غدت أكثر نُضجًا من مسرحيَّات ملهى «الأبيه دي روز». ولمَّا كان الريحاني قد عمد إلى شغل مُدَّة العرض كُلَّها – وكانت تبلغ ثلاث أو أربع ساعات، في حين أنَّها في «الأبيه دي روز» ساعةٌ واحدةٌ تُعرض خلالها مسرحيَّة قصيرة – فقد شجَّع أمين صدقي على تأليف مسرحيَّات من فصلين بدلًا من فصلٍ واحدٍ
مرحلة المسرحيَّة الاستعراضيَّة (1917 – 1920م)
على أثر نجاح الريحاني في عُروض الكوميديا «الفرانكوعربيَّة»، ظهر مُقلِّدون عديدون دأبوا على ابتكار شخصيَّاتهم الكوميديَّة المحليَّة. لكنَّهم كانوا يُمثلون هذه الشخصيَّات على أي نحو، في عُروض مُنوَّعات قوامها الأُغنية والاستعراضات الراقصة، بدلًا من إدماجها في مسرحيَّةٍ كوميديَّةٍ قصيرة. وسُرعان ما تطوَّر هذا اللون من التسلية إلى استعراضٍ عرَّفه مُحمَّد تيمور – رائد النقد المسرحي في ذلك الوقت – بِقوله: «لَيْسَ الرِّيفيُّو غَيرَ مَعرَضَ الحَوَادِثِ الهَامَّةِ التي تَجرِي فِي بَلَدٍ مِنَ البِلَادِ، يَنظُرُ إليهَا المُؤلِّفُ نَظرَةَ الهَازِئ، أو السَّاخِر، ثُمَّ ينقُلها إلى المسرَح مُشوَّهَة تَشويهًا».
وقد حظي الاستعراض بِشعبيَّةٍ هائلةٍ، حتَّى أنَّهُ طغى – بين سنتيّ 1917 و1920م – على مجالات الترفيه بالقاهرة. وجرف الريحاني في تيَّاره، وترك بصماته على الكوميديا «الفرانكوعربيَّة» حديثة النشأة. وبالرُغم من أنَّ جورج أبيض وهو أكبر مُمثل – مُدير في ذلك الوقت – كان يُمثِّل بِنجاح تراجيديَّات أوروپيَّة باللُغة العربيَّة الفُصحى، فإنَّهُ انقاد بالرُغم منهُ لِهذه الموجة، فقدَّم استعراضًا غنائيًّا بِعنوان «فيروز شاه» كتبه أديب يُدعى عبد الحليم دلاور.
وفي ملهى «الكازينو دي پاري» كان علي الكسَّار يُقلِّد الريحاني بِنجاحٍ كبير. والكسَّار هو مُبتكر شخصيَّة رجل نوبي بربري يُدعى «عُثمان»، كان نموذجًا لِفئة الخدم، وكان يُماثل «كشكش» في نواحٍ عديدة، فهو بسيطٌ وطيِّب لكنَّهُ ماكرٌ مُخادع. وتقليدًا لِمسرحيَّات الريحاني، فقد أطلق الكسَّار على استعراضاته عناوين مُماثلة لِعناوين مسرحيَّات الريحاني، مثل «البربري في باريس». غير أنَّ الريحاني كان أقدر على الفُكاهة من الكسَّار وأرحب خيالًا، وتُعدُّ شخصيَّة «كشكش بك» أكثر أهميَّة من شخصيَّة «عُثمان»، ومع ذلك لم يكن في استطاعة الريحاني أن يصمد لِمُنافسته، طيلة عمل فرقته بِمسرح «الرينيسانس»، الذي لم تسمح إمكانيَّاته الفنيَّة بِتقديم عُروض فخمة، ولم يتمكَّن من ذلك إلَّا بعد انتقاله إلى مسرح «الإجپسيانا» (بالفرنسية: Egyptianna) الذي يفوق «الرينيسانس» اتساعًا، وتدعيم فرقته بِعناصر جديدة وجيِّدة.
كان مسرح «الإجپسيانا» – قبل إنشائه – مقهى، وعندما استولى عليه الريحاني في شهر أيلول (سپتمبر) 1917م، أسرع بِتحويله إلى مسرحٍ بدائيٍّ، وكانت أرضه غير مكسوُّة بالبلاط، كما كان سقفه مُغطى بالخيش، وقد رُصَّت به – في صُفوفٍ غير مُنتظمة – مقاعد مصنوعة من قشٍ رخيص.
وقد بلغت الفرقة درجةً عاليةً من القُوَّة والتماسُك، كما انضمَّ إليها مُمثلون مشهورون أمثال عبدُ اللطيف جمجوم واستيفان روستي (الذي تخصص في دور الخواجة الأجنبي)، وكلود رينو (في دور الشَّامي)، وعبدُ اللطيف المصري (صاحب شخصيَّة زعرب)، وحسن إبراهيم (مُتخصص في أدوار نسائيَّة)، وحسين رياض.
وقد افتتحت الفرقة موسمها في 17 (سپتمبر) 1917م المُوافق فيه 1 ذو الحجَّة 1335هـ بِمسرحيَّة أكثر نُضجًا، بِعنوان «أم أحمد»،
من تأليف أمين صدقي. وتقع هذه المسرحيَّة، على عكس مسرحيَّات صدقي والريحاني التي مُثِّلت في «الأبيه دي روز» في ثلاثة فُصول. وقد رُوعي في تأليفها التسلسُل المنطقي للأحداث، ويحتوي كُل فصل على أُغنيتين. وتدور أحداث المسرحيَّة حول كشكش بك الذي تخلَّى عن دوره التقليدي، عُمدة القرية، لِيُؤدي دور كاتبٍ بسيط، وكانت الأحداث تمضي في عالم ألف ليلة وليلة.
وقد أخرج الريحاني – بعد مسرحيَّة «أُم أحمد» – ثلاث مسرحيَّاتٍ قصيرة عن العجوز السوقيَّة، وهي على التوالي: «أُم بكير» و«حماتك بتحبَّك»، و«حلق حوش
وعلى الرُغم من أنَّ هذه المسرحيَّات لم تكن أقل نُضجًا من الطائفة الأولى، إلَّا أنها لم تصمد لِمُنافسة استعراضات الكسَّار في الملهى. وفي شهر (ديسمبر) 1917م، هبط احتياطي الريحاني إلى خمسين جُنيهً
فأجرى بعض التغييرات على إدارة الفرقة، مما مكَّنهُ من السيطرة عليها ماليًّا وفنيًّا. فهو أولًا قد استبعد «ديموكُنگس» من إدارة الفرقة، وبذلك استطاع أن يُشرف على 70% من الإيرادات. وثانيًا، وجد الريحاني أنَّ الوقت قد حان لإجراء تحسينات فنيَّة، فإذا لم يتذوَّق الجُمهور ما يطرأ على كوميديَّاته من تطوُّرٍ فنيٍّ، اتجه بِكُل مواهبه إلى تقديم استعراضات فنيَّة رفيعة. وكان الريحاني قد شاهد أحد استعراضات الكسَّار في الملهى، فداخلتهُ الثقة بِقُدرته على إنتاج استعراضات ذات موضوعات جادَّة ومضمون مصري وعربي ومشرقي، تكون أرفع بِكثير من سخافات الكسار
وضمَّ إلى فرقته مجموعة من الراقصات والمُغنيات الأوروپيَّات، واستعان بِأوركسترا موسيقيَّة كبيرة، حتَّى يتسنَّى لهُ تقديم استعراضات فخمة. وزوَّد المسرح بالتصميمات اللازمة، كما طلب من أمين صدقي كتابة استعراض جديد يحمل عنوان «حمار وحلاوة».ومن غير المعروف متى بدأ عرض هذه المسرحيَّة
، لكن يُرجَّح أنَّ ذلك كان في أوائل شهر يناير) 1918م. وقد حققت «حمار وحلاوة» نجاحًا هائلًا، فاستمرَّ عرضها أربعة أشهر. وبلغت أرباح الريحاني وحده – في الشهر الأوَّل – 400 جُنيه.
وسرت إشاعة تقول أنَّ الريحاني قد كوَّن ثروةً ضخمة، حتَّى أنَّهُ اشترى ضيعة أسماها «حمار وحلاوة».
على أثر نجاح استعراض «حمار وحلاوة» طلب أمين صدقي من الريحاني منحه نسبة من الأرباح، لكنَّ الريحاني رفض. فاستقال صدقي من مسرح «الإجپسيانا»، وألَّف مع الكسَّار فرقة مسرحيَّة، واستأجرا مسرح «الماجستيك» لِحسابهما الخاص.
وقد خلف صدقي – في «الإجپسيانا» – شاعر ومُدرِّس شاب يُدعى بديع خيري، ما لبث أن أصبح صاحب الفضل في نجاح استعراضات الريحاني التالية، بِأزجاله الوطنيَّة. ولم يكن ما حبَّب للريحاني أزجال خيري هو موضوعها المصري فحسب، بل راقت له وطنيَّتُها المُتدفقة، في وقتٍ كانت فيه الحرب العالميَّة الأولى قد وضعت أوزارها وأخذت تزداد في مصر مشاعر الكراهيَّة للاستعمار البريطاني. ووجد خيري – في الوقت نفسه – في صُحبة الريحاني فُرصةً للعمل المُثمر والتقدير المادي ولاستخدام مواهبه كسلاح في خدمة النضال السياسي.
وقد نجح أوَّل استعراض كتب خيري أغانيه وهو «على كيفك»، حتَّى أنَّ عرضه استمرَّ شهرين ونصف الشهر، وحقَّق أرباحًا قدرها ثلاثة آلاف من الجُنيهات. وكان الريحاني سعيدًا بِجُهود خيري، فرفع راتبه إلى ثلاثين جُنيهًا.
وكان هُناك كاتبٌ آخر هو حُسين شفيق المصري – يُعالج حبكة المسرحيَّة – في حين يتولَّى تلحينها الموسيقار الشَّامي كميل شامبير.
وقد بثَّ خيري في أزجاله النُكتة المصريَّة التي كان الريحاني شغوفًا بِإظهارها. وبعد أن قرَّر شامبير الانسحاب من الفرقة، أغرى الريحاني موسيقارٌ شاب موهوب هو سيِّد درويش بِترك فرقة جورج أبيض مُقابل أربعين جُنيهًا في الشهر بدلًا من الثمانية عشر التي كان يتقاضاها من أبيض.
وخلال هذه الفترة، عُرضت للريحاني عدَّة مسرحيَّات هي على التوالي: «مصر في 1918 – 1920»، و«قولوا له» التي مُثِّلت في
مايو) 1919م، و«إش!» في (يونيو)، و«ولو!» في (يوليو)، و«رن!» في ديسمبر)، و«فشر» في (مايو) 1920م.
وفي تلك الفترة بلغ مسرح «الإجپسيانا» أوج مجده، وقد بلغت أرباح الريحاني – حتَّى نهاية السنة الأولى – 28 ألف جُنيه
شهيرة النجار