وقد كانت جميع أوپريتات الريحاني تقريبًا تعتمد على رواياتٍ من «ألف ليلة وليلة». واستطاع بذلك أن يُحقق عن طريق حبكاتها نموذجًا رومنطقيًّا راقيًا من الكوميديا الخالية من «الفارس». وهُنا بدأت مرحلة الكوميديا الناضجة عند الريحاني، فقد تخلَّى عن شخصيَّة «كشكش بك» والشخصيَّات النمطيَّة، وتقنيَّة الكوميديا الفرانكوعربيَّة، واستخدم بدلًا منها شخصيَّات واقعيَّة، حتَّى لقد تحوَّل اهتمام الريحاني بشكلٍ ظاهرٍ إلى الاستعانة بِنماذج من عامَّة الشعب – كالإسكافي، والترزي، والموسيقار، ونماذج أُخرى من الطبقة العاملة – وإلى مُعالجة قضايا هامَّة أيضًا. وفي تلك الفترة كان جُمهور المسرح يمر بِتحوُّلٍ تدريجيٍّ، وذلك أنَّ رُوَّاد فترة الملاهي من الأجانب وأثرياء الحرب أفسحوا المجال لِطبقةٍ مُتوسِّطةٍ صاعدة من المُوظفين والطلبة والمهنيين المُتعلمين، الذين ازداد إقبالهم على المسرح. كما أخذت الروح الوطنيَّة والقوميَّة تتغلغل بين الناس بعد تفتت الدولة العُثمانيَّة وانفصال الولايات إلى عدَّة دُول مُستقلَّة، فكان رُوَّادُ المسرح لأوَّل مرَّة يرغبون بأن يُخاطبهم المسرح كمصريين.
وقد عبَّر عن آمال الجُمهور – في تلك الفترة – طائفة جديدة من نُقَّاد المسرح الذين شغلتهم قضيَّة مُشتركة هي النُهوض بالمسرح الحديث. وكان هؤلاء يتوقون إلى تحرير المسرح من الترجمة والاقتباس عن المسرح الفرنسي الكلاسيكي، وإلى إنتاج مسرحيَّات تُصوِّر الحياة المصريَّة والعربيَّة والمشرقيَّة تصويرًا صادقًا أمينًا، وتهدف إلى ترقية الأخلاق.
وقد كان لِهذه الأفكار تأثيرٌ قويٌّ على الريحاني، لهذا أخذت أوپريتاته تتجاوز مرحلة «فارسات» كشكش بك لكي تُعبِّر عن مضمونٍ أخلاقيٍّ ساذج لكنَّهُ لا يتسم أبدًا بالنفاق. وتُعدُّ مسرحيَّة «العشرة الطيِّبة» التي مُثِّلت في شهر (مارس) 1920م، باكورة إنتاج الريحاني في المرحلة الجديدة. وكان قد كلَّف بِترجمتها الناقد والكاتب المسرحي المعروف «مُحمَّد تيمور»، عن مسرحيَّة فرنسيَّة بِعنوان «اللحية الزرقاء» (بالفرنسية: La Barbe bleue)، ثُمَّ عهد إلى بديع خيري بِكتابة أزجالها، وإلى سيِّد درويش بِتلحين موسيقاها، وأسند إلى عزيز عيد إخراجها. وكوَّن الريحاني فرقةً جديدةً من كُلٍ من: روز اليُوسُف، ومُحمَّد رضا، وزكي مُراد، ومُنسَّى فهمي، ومُختار عُثمان، واستيفان روستي، وبرلنتِ حلمي، ونازلي مزراحي. كما استأجر مسرح «كازينو دي پاري» لِمُدَّة سنة بِمبلغ ألف جُنيه، واشترى مجموعة فخمة جديدة من الملابس والمُهمَّات والأثاث.
ولم تنجح «العشرة الطيبة» برُغم ما توفَّر لها من مزايا، فقد انزلق الريحاني وزُملاؤه إلى فخٍ سياسيٍّ عندما سخروا من الأتراك في ذلك الوقت بالذات، بعد هزيمة الدولة العُثمانيَّة في الحرب العالميَّة الأولى، وبعد أن تجلَّى أنَّ البريطانيين كانوا – في سنة 1920م – أكبر عقبة في سبيل استقلال مصر، وأنَّهم يفعلون الأمر نفسه في فلسطين والعراق وتُركيَّا، إذ فرضوا احتلالًا على تلك البلاد كما في مصر، كما كانت الأفكار في مصر ما زالت تحن وتعطف على الدولة العُثمانيَّة السَّابقة، ولمَّا تضافر عامل الاحتلال البريطاني لِمصر مع كون البريطانيين أقوى عامل في هزيمة العُثمانيين، انحازت عواطف الشعب المصري إلى تُركيَّا، ولم تعد السُخرية من الأتراك أمرًا مقبولًا. لِذلك استغلَّ خُصوم الريحاني الموقف، وراحوا ينشرون الخبر بأنَّهُ «دسيسة بريطانيَّة»، وأن القصد من عرضه لرواية «العشرة الطيبة» هو تجسيم مساوئ العُثمانيين في عين المصريين، وتقريب البريطانيين لِقُلوبهم، أو أي إساءة للتُرك، ولم تكن تمر ليلة إلَّا ويقف في إحدى مقاصير «كازينو دي پاري»، أثناء التمثيل، أو في فترة الاستراحة، خطيب يُنادي بالويل والثُبور وعظائم الأُمور، ويهتف بِسُقوط الريحاني. وكثيرًا ما كان يقف بين المُتفرجين بعض العُقلاء والمُتنورين، فيرُدون على تلك التُهم ويُهدؤون من روع الهاتفين.
تركت هذه الأحداث أسوأ الأثر في نفسيَّة الريحاني، فقرَّر الابتعاد عن الجُمهور المصري قليلًا. وفي بداية الموسم الشتوي لِسنة 1920م، جمع الريحاني أعضاء فرقته القديمة وشرع في تقديم مسرحيَّات «كشكش بك» الأولى في جولةٍ في بعض الأقطار العربيَّة. وكان يأمل من وراء هذه الرحلة رفع معنويَّاته، بالإضافة إلى تحقيق ربحٍ ماديٍّ. لكنَّهُ تبيَّن بعد وصوله إلى الشَّام أنَّهُ لن يُحقق أهدافه. فقد كان لدى الشوام في لُبنان ودمشق نسخة عن «كشكش بك» هو «كاشكاش» الذي كان يُمثِّل دوره أمين عطا الله، الذي لعب دور «الشيخ ينسون» مع الريحاني في المسرحيَّات الاستعراضيَّة سابقًا. ولم يكن أمين عطا الله قد سطا على ابتكار الريحاني فقط، بل إنَّهُ انتحل أيضًا مسرحيَّاته.
وكان تمثيل عطا الله لِشخصيَّة كشكش مُوجهًا لِلجُمهور الشَّامي: فهو يتحدَّث بِلهجةٍ لُبنانيَّة تارة ودمشقيَّة تارةً أُخرى، ويرتدي الملابس المألوفة لدى الشوام بدل زي العُمدة الريفي المصري. لِهذا لم يلقَ «كشكش» الريحاني استجابةً أو قُبولًا لدى الشوام، بل إنهم اتهموا الريحاني بِتقليد أمين عطا الله.
وبرُغم ذلك، فقد حقَّقت رحلة الريحاني إلى الشَّام نتيجةً طيِّبةً في جانبٍ آخر، ذلك أنَّهُ التقى في مدينة زحلة البقاعيَّة في لُبنان بامرأةٍ جميلة، تُدعى بديعة مصابني، أغراها بالانضمام إلى فرقته واتخذها خليلةً له، وعاد معها إلى مصر.
ولم يكن الحظ حليف الريحاني بعد عودته إلى مصر، في أوائل سنة 1921م. فقد رفع عليه «ديموكُنگس»، صاحب مسرح «الإجپسيانا» اليوناني، دعوى قضائيَّة يُطالبه فيها بِتعويضٍ عن الخسائر التي لحقته بِسبب غياب فرقته عن المسرح
واستغرق نظر الدعوى شهرين، وصدر الحُكم في النهاية لِصالح الريحاني. وقد أعاد الريحاني تقديم المسرحيَّات الفرانكوعربيَّة في الفترة الباقية من الموسم، كما قدَّم بضع حفلات من أوپريت «العشرة الطيِّبة».
وفي سنة 1921م، أخرج الريحاني ميلودراما من أعنف ما شهد المسرح المصري، بِعنوان «ريَّا وسكينة». وتتناول هذه المسرحيَّة قصَّة عصابة القتل التي اكتُشفت في العام نفسه، وكانت تتزعمها ريَّا وسكينة علي همَّام، اللتان كانتا تستدرجان النساء إلى وكرهما، حيثُ تسرقان حليهنَّ، ثُمَّ تقتُلاهُنَّ بالتعاون مع زوجيهما (حسب الله سعيد مرعي زوج ريَّا، ومُحمَّد عبدُ العال زوج سكينة). ويروي الريحاني أنَّهُ قام بإخراج هذه المسرحيَّة بعد أن أصبحت ريَّا وسكينة حديث الناس أجمعين، وبِسبب مُيوله الطبيعيَّة للدراما عوض الكوميديا، وقد نجحت تلك المسرحيَّة نجاحًا باهرًا، بحيثُ يقول الريحاني أنَّهُ كان يسمع النحيب والبُكاء صادرين من الناس عند العرض
لكن على الرُغم من ذلك، تعرَّض الريحاني لِمُشكلةٍ مُلحَّة خلال تلك الفترة، فقد انخفض دخله كثيرًا، حتَّى اضطرَّ في أوائل سنة 1922م إلى توقيع عقد مع إحدى شركات السجائر لِتمويل فرقته لِمُدَّة ثلاثة أشهر، نظير استغلال إسمه في الإعلانات. وظلَّ الريحاني يُقدِّم عُروضه من شهر (ماس) إلى مايو)، على مسرح «كونكورديا» بالإسكندريَّة. وفي تلك الفترة أخذ اسم بديعة مصابني يتردد مع اسم الريحاني. وعند انتهاء العقد، قرَّر الريحاني القيام بِرحلةٍ أُخرى إلى الشَّام، يُراوده نفس الأمل في تنمية إيراداته. وشجَّعه على ذلك عدم توافر مسرح يعمل به بالقاهرة. ذلك أنَّ «ديموكُنگس» صاحب «البرنتانيا» – وهو الاسم الجديد لِمسرح «الإجپسيانا» – كان قد قرَّر تأجير مسرحه لِلفرق المسرحيَّة الأجنبيَّة. ولم يسمح للريحاني بالعمل به، إلَّا في الفترات التي تتخلل العُروض الصيفيَّة. فلم يكن أمام الريحاني من خيارٍ سوى أن يقوم بِرحلةٍ إلى الشَّام. وكان الريحاني بِحاجةٍ إلى نسيان صدمة من أقسى صدمات عُمره، وهي اختفاء أخيه الأصغر فجأة، دون أن يُعثر لهُ على أثر، ثُمَّ وفاة أُمِّه في نفس الفترة تقريبًا.
ولم تؤدِّ هذه الرحلة إلى نتيجةٍ أفضل مما أتاحته الرحلة الأولى. فقد ظلَّت المتاعب تؤرقه، وساءت حالته الماديَّة، مما جعلهُ يُفكِّر باعتزال المسرح، حتَّى علم أنَّ مُمثلًا شابًا يُدعى يُوسُف وهبي قد عاد لتوِّه من إيطاليا، حيثُ درس التمثيل، وشرع في تكوين فرقة جديدة، يتَّبعُ فيها أُسلوبًا مسرحيًّا جديدًا هو «الميلودراما». ولم يكن مُخرج فرقة وهبي الجديدة سوى عزيز عيد.
عندئذٍ قرَّر الريحاني على الفور أن يعود إلى مصر، وأن يُواجه هذه المُشكلة الوشيكة.
وكانت أوَّل مُشكلة صادفت الريحاني بعد عودته إلى القاهرة، في شهر (يناير) 1923م، هي العُثور على نص. وذات يومٍ حدثت مُفاجأة مُدهشة، إذ قدَّم لهُ بديع خيري أوپريت مُقتبسة من قصَّة «علاءُ الدين والمصباحُ السحريّ»، وأخبر الريحاني بِأنَّهُ كتبها بالاشتراك مع شقيقه (أي شقيق الريحاني) مُنذ بضعة شُهور، وأنَّهُ كان مُترددًا في عرضها عليه. وعندما طالعها الأخير، وجد أنَّها حائزة لِإمكانيَّات العرض، بِرُغم مشاهدها الخمسة والثلاثين،
وقام هو وخيري بِمُعالجتها في صورةٍ أفضل. وعندئذٍ تبيَّن للريحاني أنَّ خيري يتمتع بِمقدرةٍ فذَّة في تصوير الحياة المصريَّة وصياغة اللهجات المحليَّة.
وأضاف الريحاني إلى هذه الموهبة، موهبته في رسم الشخصيَّات وكتابة الحوار، فضلًا عن خفَّة ظلِّه وتقنيَّاته وأفكاره المُبتكرة. وبهذا، أصبح بإمكان الريحاني الشُروع في خلق كوميديا مصريَّة صميمة
نجحت المسرحيَّة سالفة الذِكر بِمُجرَّد عرضها، وأحبَّ الجمهور بديعة مصابني، كما أثنى على مناظر المسرحيَّة وملابس المُمثلين الرائعة وعلى طابعها العربي.
وعندما ظهر الريحاني على المنصَّة في ليلة الافتتاح، استقبلهُ الجُمهور بِعاصفةٍ من التصفيق.
وفي 24 (مايو) 1923م أخرج الريحاني أوپريت جديدة تحمل عنوان «الشاطر حسن»، وكانت هي الأُخرى مُقتبسة عن «ألف ليلة وليلة». وفي (فبراير) 1924م، قدَّم الريحاني أوپريت جديدة هي «البرنسيس» التي تقترب أكثر من الكوميديا الخالصة، بِرُغم ما فيها من شوائب ميلودراميَّة. وكانت هذه الأوپريت غير مُقتبسة من «ألف ليلة وليلة»، إنَّما تقع أحداثها في صالة غُرفة استقبال عصريَّة في القاهرة، وتُمثِّل شخصيَّاتها الواقعيَّة قطاعًا من البُرجوازيَّة الكبيرة والصغيرة، كما تتناول قصَّتها الخيانة وأهميَّة المال لِتحقيق السعادة الزوجيَّة.
وعكست تلك المسرحيَّة بما تضمَّنته من عواطف حارَّة ومغزى أخلاقي اهتمام الريحاني البالغ بِمسائل الثراء والزواج والخيانة، التي كان مصدرها جوانب مُعينة من حياته الخاصَّة في ذلك الوقت، إذ يذكر في مُذكراته أنَّهُ مرَّ بِصدمةٍ شخصيَّةٍ قاسية سنة 1923م، فسَّرها ابن شقيقه «بديع الريحاني» بأنَّها صدمة اكتشاف خيانة بديعة له.
وفي شهر فبراير) أيضًا، أخرج الريحاني أوپريتين جديدتين هُما: «أيَّام العز» و«الفلوس»، ثُمَّ «مجلس الأُنس» في شهر (أبريل).والأوپريت الأخيرة – في تلك السنة – هي «لو كُنت ملك»، فقد انتهى عقدالريحاني مع مسرح «برنتانيا» في شهر (يوليو). ذلك أنَّ خلافًا دبَّ بين الريحاني والحاج حفني مُدير المسرح، رفض الأخير على أثره تجديد العقد، بل إنَّهُ أخذ يُطالبه بِدفع أُجور الحفلات النهاريَّة، التي كان الريحاني قد وافق على سدادها، حتَّى لو أُلغيت هذه الحفلات لِعدم إقبال الجُمهُور. ولمَّا لم يكن الريحاني قادرًا على سداد المبلغ المطلوب، وقدره 720 جُنيهًا، فقد اضطرَّ إلى ترك ديكوراته وملابسه.
كُل هذا أفضى بالريحاني إلى حالةٍ نفسيَّةٍ سيئة، ممَّا جعله يُفكِّر بِالقيام بِرحلةٍ جديدةٍ، كما اعتاد أن يفعل – من قبل – في مثل هذا الموقف، مُتطلعًا من وراء رحلته إلى تحقيق أهدافٍ ترفيهيَّةٍ وماديَّةٍ. وكان قد علم أنَّ أمريكا الجنوبيَّة تضم جالية عربيَّة ضخمة، سوف تُرحِّب بِقُدوم فرقةٍ عربيَّةٍ كفرقته. وقبل أن يُبحر الريحاني، اتخذ قرارًا آخر يفوق الأوَّل أهميَّة، وهو أن يتزوَّج بديعة مصابني. وكانت عندما أبدى رغبته في إتمام الزواج منها تُقيم مع صديقها الثري في مسكنه. فتوجَّه إليها، وطلب منها أن تنصرف معهُ لِيتزوَّجها، ووافقت بديعة لكنَّها – كما تروي في مُذكراتها – كانت تعُد هذه الزيجة تنطوي على تضحية من جانبها، لأنها سوف تحرمها من الحياة الرغدة التي كان يُوفرها لها صديقها، من أجل حياة بوهيميَّة غير مُستقرَّة تعيشها كزوجة للريحاني
أبحر الريحاني وزوجته إلى البرازيل، وبصُحبته بعض أعضاء فرقته على ظهر السفينة «غاريبالدي». كانت مُفاجأة سارَّة للريحاني إذ اكتشف أنَّهُ معروفٌ للشِّوام في ساو پاولو وغيرها من المُدن البرازيليَّة، بل وجد لديهم نسخهم المحليَّة من «كشكش بك» أيضًا. ففي البرازيل كان جورج استاتي السوريّ الأصل يُمثِّل مسرحيَّات الريحاني القديمة، وقد أطلق على نفسه «كشكش البرازيلي». وفي الأرجنتين كان يوجد كشكش آخر يُمثله جُبران الطرابُلسي.
أمَّا كشكش بك الحقيقي وعروسه فقد استُقبلا بِحفاوةٍ في ريو دي جانيرو ومونتڤيدو، ومثَّلت الفرقة في هاتين المدينتين فُصولًا من أوپريتات المواسم الماضية.
وفي أثناء عودة الريحاني وعروسه، توقفا في باريس، حيثُ أمضيا أُسبوعين، أنفقا خلالهُما مُعظم أرباحهما.
وعاد الريحاني وبديعة في 25 (أكتوبر) 1925م المُوافق فيه 8 ربيع الآخر 1344هـ، بعد حوالي سنة من مُغادرة مصر، وكان في انتظارهما بِميناء الإسكندريَّة أمين صدقي، الذي كتب لِلريحاني مسرحيَّات «الأبيه دي روز». وكان صدقي قد اختلف مع الكسَّار، وأبدى رغبته في مُعاودة نشاطه مع الريحاني، ووافق الريحاني، لِأنَّ بديع خيري – الذي كان مُختصًّا بِكتابة مسرحيَّات فرقة الريحاني – كان مُنشغلًا بِتأليف أوپريتات الكسَّار. فاشترك الريحاني مع صدقي في تكوين فرقة للأوپريت، مقرُّها «دار التمثيل العربي». وترجم صدقي أوپريتتين فرنسيتين شائعتين بباريس هُما: «الليل والنهار» (بالفرنسية: Le Jour et la Nuit)، التي اقتبسها باسم «قُنصل الوِز»، ومُثِّلت في (ديسمبر) 1925م. والثانية هي «La Vingt huit jour de clarette» التي اقتبسها بِعنوان «مراتي في الجهاديَّة»، وقد مُثِّلت بعد فترةٍ قصيرة من تمثيل الأولى. وفي ليلة افتتاح «قُنصل الوِز» استقبل الجُمهور الريحاني استقبالًا حارًّا.
ولم يدم التعاون بين الريحاني وصدقي طويلًا، فقد انفصلا بعد شهرين في (فبراير) 1926م. وفي نفس الفترة، تشاجر الريحاني مع بديعة وانفصل عنها، وذهب كُلٌ منهُما إلى حال سبيله. فافتتحت بديعة صالتها الخاصَّة وكانت قد اشتهرت في ذلك الحين كمُغنية وراقصة. أمَّا الريحاني فقد مضى في طريقٍ مُغايرٍ تمامًا. وفي تلك الفترة، تضاءلت تلك الشعبيَّة التي كان يتمتَّع بها الريحاني في مرحلة الاستعراض، عندما كان يعمل في الميدان بلا مُنافسة. وأصبح يتقاسم جُمهور المسرح مع الفرق الأُخرى، واضطرَّ أيضًا إلى خزض مُنافسة عنيفة مع يُوسُف وهبي الذي أدخل عن طريق الميلودراما اتجاهًا وأُسلوبًا جديدين في المسرح المصري، مُنذ أن شرع يُقدمها على المسرح سنة 1923م. وسُرعان ما أصبحت الميلودراما أكثر الألوان شعبيَّةً في المسرح المصري، في مُنتصف عشرينيَّات القرن العشرين الميلاديّ. ولمع اسم يُوسُف وهبي كأشهر مُمثلي تلك الفترة بلا مُنازع. ولمَّا لم تصمد أوپريتات الريحاني أمام مُنافسة ميلودرامات وهبي، فقد قرَّر أن يلقى وهبي على أرضه