فريدة الفنانة
كانت فريدة قارئة ممتازة ومستمعة جيدة تتابع كل مشاكل العالم وتبدي آراءها في كثير من الأمور.
قامت ثورة يوليو وانقضت فترة الملكية وبدأت فريدة حياة جديدة استرجعت فيها مواهبها التي افتقدتها لسنين طويلة فعادت لممارسة الرسم منذ عام ١٩٥٤ وذلك لتغطية نفقات معيشتها بعد أن سلبتها الثورة كل ما تملك.
كانت تقول عن هواياتها (أنا أعيش صديقة لهواياتي، أستعيد معها ذكرياتي، وأتغلب بها على ما يقابلني من عقبات، وكما قلت لقد أنقذني حبي للفن من الجنون)
تنقلت فريدة بين بلدان كثيرة كبيروت والبحرين والسعودية وكان آخرها سويسرا عندما قررت أن يكون أول معارضها الفنية على أرض مصر واختارت فندق المريديان المطل على النيل، لاقى المعرض نجاحًا فاق الوصف وحضره العديد من رجال الدولة والإعلام والشعراء والعرب والأجانب، وأشاد الجميع بجديتها وبأسلوبها المتميز وطريقتها المستحدثة في تسجيلها للضوء داخل اللوحات.
أثرت نشأتها بمدينة الإسكندرية على فنها تأثيرا كبيرا فمدينة الإسكندرية مدينة ساحلية هادئة تمتاز بمياهها الزرقاء وسمائها الصافية وعند المساء تتلألأ أضواؤها الساحلية على شاطيء البحر مما يضفي جوًا من الشاعرية والجمال، وأيضًا غروب الشمس عندما يتوارى قرص الشمس الذهبي خلف مياه البحر الزرقاء، كل هذه المتناقضات أوحت للملكة فريدة بأهمية ودور الإضاءة داخل اللوحات لأن تغيير الإضاءة بوسعه أن يعطي شعورًا مختلفا حتى لو ثبتنا المكان المرسوم وغيرنا فقط إضاءته.
بدأت الملكة فريدة مشوارها الفني بوضع الإضاءة المتغيرة بواسطة “التايمر” فكان هناك نوعان من الإضاءة؛ إضاءة ثابتة وأخرى متغيرة ما بين الفجر والظهر والغروب، وكانت تقف فترات طويلة لتحديد مصدر الإضاءة داخل اللوحة بما يتلائم مع أحاسيسها تجاه العمل، كانت المؤثرات التي مرت عليها وشدة حساسيتها قد أثرت على شخصية الفنانة التي بداخلها فعملت على مزج حساسيتها الفنية ومعاناتها في الحياة وتأثرها بالأجواء الفنية المختلفة.
ذهبت إلى باريس وأقامت معرضا لاقى نجاحا كبيرا وكانت تنزل يوميا لتشتري الألوان والأحبار والكتب التكنولوچية الخاصة بالرسم والتلوين فكونت فكرًا جديدًا ورؤية خاصة مزجت فيها بين الرومانسية مع الوصفية أو قل إن شئت المكان مع الزمان فقد كانت تقول (أنا عايزة الناس تحس أنا عايزة أقول إيه).
أقامت الملكة فريدة العديد من المعارض في البحرين ومدريد وباريس وجنيف وبلغاريا وتكساس وجزيرة مايوركا وذلك في فترة السبعينيات والثمانينيات.
كانت الملكة فريدة تبدأ اللوحة بعفوية وبدون فكرة محددة ثم بعد أن تنساب الألوان وتتوقف تكون اللوحة، وأحيانًا يتحرك اللون لينساب عشوائيًا على اللوحة فهي لا تعد اسكتشا معينًا قبل أن تبدأ ولكنها كما قالت : تبدأ اللوحة، ومن الألوان والظلال تكوّن التكوينات المختلفة للوحة، وكان لديها قدرة كبيرة على توظيف الألوان.
كانت تحب نهر النيل، وكانت تتذكر الحياة على ضفتيه حتى كست صور أشرعة المراكب البيضاء لوحاتها، وتناثرت على شواطئها الفلاحات وهن يحملن جرار الماء يمشين بكبرياء مثل الملكات.
كانت حريصة على نظافة البيئة من التلوث، فكانت تريد كل شيء في مصر نظيفًا وانطبع في ذاكرتها الفلاح بهامته العالية، وعمامته المميزة وانعكاس الضوء على صفحات النيل.
كان حبها للنيل يدفعها إلى تكرار القيام بنزهه نيلية، سواء بالمراكب أو اللنشات، لذلك نرى أن أغلب لوحاتها كانت عن النيل والماء وقوارب الصيد والنزهة بأشرعتها البيضاء.
وفي عام ١٩٨٥ وفي إحدى معارضها لوحظ خلو لوحاتها من الحقول على غير العادة وسألوها ففسرت ذلك بأن الريف قد تغير فمكان الزروع مباني كثيرة حتى الفلاحة البسيطة التي تصحو مبكرًا لكي تصنع العيش وتربي الطيور، وتذهب إلى الأرض مع زوجها لتساعده، لقد باتت تنتظر الطيور واللحوم القادمة من العواصم وتباع في المجمعات وتنتظر العيش الآلي وتساعد زوجها على ترك الأرض لكي يجلب النقود الكثيرة من أماكن أخرى أو تساعده على أن يجرف أرضه ويبني ويعيش في المدن.
قالت عن خالها ومعلمها الأول الفنان محمود سعيد (مع حبي لخالي محمود سعيد حاولت بكل جهدي أن أبتعد عن أسلوبه وأن يكون لي أسلوبي، والحمد لله فقد نجحت في ذلك وجعلت لنفسي أسلوبًا خاصًا يجمع بين اللون والإضاءة حيث إن الإضاءة أصبحت جزءًا من لوحاتي، ولكن الذي أخذته عن خالي هو أن عكست لوحاتي شكل الحياة المصرية، ولكن عن طريق الإضاءة ممكن أن ترى للوحة الواحدة عدة أشكال عند الفجر أو الشروق أو في الظهيرة أو عند الغروب)
أثناء وجود الملكة فريدة في أمريكا تم سرقة لوحاتها ولم تستطع العثور عليها!
فقد اتفق معها أصحاب (جاليري) من الأمريكان على عرض لوحاتها وطلبوا منها إحضار هذه اللوحات إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأكدوا لها أنهم سينظمون مهرجانًا كبيرًا لبيع لوحاتها لتحصل على أكبر عائد.
وتم فعلا القيام بالمطلوب وأُحضرت اللوحات إلى أمريكا، وطلبت من أصحاب (الجاليري) تنفيذ تعهداتهم من تحديد موعد وعرض اللوحات بشكل لائق والقيام بعمل مايلزم.
وأخذ أصحاب (الجاليري) يماطلون ثم تحججوا بأن لهم مشاكل مع الضرائب وأنه يُستحسن تأجيل المعرض إلى موعد آخر واقترحوا تأجير مكان لتخزين اللوحات.
وتم فعلا وضع اللوحات بشكل مناسب في هذا المكان ثم أغلقوا وسلموا المفتاح وبعد فترة تم فتح المخزن للاطمئنان على اللوحات ولكن كانت المفاجأة أنه تم اختفاء جميع اللوحات وتم اختفاء أصحاب (الجاليري) تمامًا، ولم يعثر على أي أثر لهم، وتم إبلاغ السلطات الأمريكية التى حاولت أن تتعاون ولكنها فشلت في العثور عليهم.
وهكذا فُقدت لوحات تزيد على المائة!
وقالت الملكة حينذاك:
(إني حزينة..ويائسة، فلم أكن أتصور أن هناك في العالم شر بهذه النوعية. ولكنهم سرقوا كفاحي ومجهودي طوال سنوات عمري)
أشاد العديد من النقاد بأعمال الملكة فريدة ومن هؤلاء النقاد “جان ماركاميان” الذي قال عنها:
(فريدة جاءت لتهدي هذا العالم المتحجر ظلالا من الحلم الشفاف وصوتا أخويا يضفي عليه حرارة الروح، فلديها الرغبة في تحويل الأشياء التصويرية إلى أشياء سحرية، ولايمكن مقارنة رسوماتها بغيرها من الرسومات)
كانت حياة الملكة فريدة تتسم بالدقة المتناهية، كلماتها بحساب ودبلوماسية إلى أبعد الحدود، قليلة في الكلام صريحة وجريئة في نفس الوقت، لا تسكت على شيء يخالف الذوق العام أو يشوه صورة الوطن، ولقد كانت شديدة الاهتمام بمسحة الجمال والنظافة وكانت لا تمل من الحديث عن التشويه المتعمد للشوارع واصفة إياها بأنها مؤامرة.
وكانت تعتبر قضية النظافة من أهم القضايا التى يجب أن ننتبه إليها.
عابت على فتيات هذه الأيام عدم اهتمامهن بالثقافة العامة وتركيزهن على مظهرهن الخارجي ووصفتهن بأنهن عبارة عن قوالب وأشكال بلا مضمون.
في أواخر حياتها أصيبت بمرض الكبد الوبائي وسافرت الكثير من البلدان في محاولة للعلاج ولكن دون جدوى حتى قررت العودة إلى مصر لتموت على أرضها، وفي فجر يوم ١٧ أكتوبر عام ١٩٨٨ فارقتها الحياة عن عمر يناهز ٦٨ عامًا.
كان موكب جنازة الملكة فريدة موكبًا مهيبًا، تقدمه الكثير من كبار المسؤولين المصريين، غير أن كثيرًا من أفراد الشعب خاصة كبار السن حرصوا على السير في الجنازة حتى يشيعوا ملكتهم المحبوبة إلى مثواها الأخير.
“الملكة الشريدة”
من مقال الدكتور مراد درويش المنشور بمجلة “فنون” – عدد سبتمبر ٢٠١٩
مع صور لبعض من لوحاتها الباقية.
شهيرة النجار