مرحلة نُضوج الريحاني كفنَّان كوميدي (1931 حتي 1935)
طرأ تحوُّلٌ مُدهشٌ على مسيرة الريحاني الفنيَّة خلال سنة 1931م، إذ اقتبس مسرحيَّة «توپاز» لِمارسيل پانيول. وكانت هذه أجرأ خُطوة يتخذها نحو الكوميديا الجادَّة، وقد اعتبرها الخُبراء والباحثون ذات أهميَّة بالغة في مسيرة الريحاني – على الرُغم من فشلها – لأنها تشهد بداية نضج الريحاني كفنَّان كوميدي. ذلك أنَّ الأخير انتقل بِتلك المسرحيَّة إلى مفهومٍ جديدٍ في مجال الكوميديا، لِأنَّ «توپاز» ساتير أخلاقيَّة رقيقة أكثر انتماءً إلى الدراما الاجتماعيَّة. فهي تتناول الفساد في الدوائر الماليَّة في فرنسا والمُجتمع الفرنسي بِوجهٍ خاص، لِهذا فالمال هو موضوعها الأساسي. وقد ركَّز الريحاني في نصِّه المُقتبس على مُعالجة مضامين أخلاقيَّة اجتماعيَّة، بِعنايةٍ وجديَّةٍ لا تتركان معها مجالًا لِلكوميديا، ورسم السيناريو بِشكلٍ واقعيٍّ يعكس مُجتمع المدينة المصريَّة.
ولم يكن تطوُّر الكوميديا الجادَّة عند الريحاني – في ثلاثينيَّات القرن العشرين – يُمثِّلُ ظاهرةً مُنعزلة. ذلك أنَّ الوعي القومي في مصر كان في نُموّ. وكانت جميع مظاهر الحياة والآداب والفُنون قد أخذت تخلع عنها الثوب الأوروپي رُويدًا رُويدًا وتتجه نحو عكس مظاهر الحياة والثقافة العربيَّة والمشرقيَّة، وأصبح البحث عن الذَّات القوميَّة والحاجة إلى تأكيدها يُشغل بال غالبيَّة المُفكرين، وفي مُقدمة هؤلاء توفيق الحكيم – الذي كان يُطالب بِإحياء كُل ما هو مصري – فأقدم على كتابة تراجيديا مصريَّة بِعنوان «أهل الكهف»، قائلًا أنَّهُ كتبها على «أُسسٍ مصريَّة».
ومن هؤلاء المُفكرين أيضًا طٰه حُسين الذي كان يرى أنَّ جوهر الثقافة المصريَّة هو في تُراثها الفرعوني والإسلامي وفي استعارة أفضل ما في الحياة الأوروپيَّة الحديثة.
وهذا الوعي القومي، لم تُعبِّر عنهُ كتابات المُفكرين والمُؤلفين المسرحيين فحسب، بل عبَّر عن نفسه أيضًا بِصُورةٍ أكثر ظُهورًا، في المسرح. فقد ازداد نُقَّادُ المسرح إلحاحًا في المُطالبة بِمسرحٍ مصريٍّ صميم. أمام هذا الواقع، رأت الحُكومة المصريَّة أنَّ الاعتناء بالمسرح واجبٌ وضرورة كونه حصنٌ للثقافة الوطنيَّة والقوميَّة، فأنشأت سنة 1930م «المعهد العالي للتمثيل»، وهو الأوَّل من نوعه في تاريخ المسرح المصري، وخصَّصت إعالة ماليَّة سنويَّة لِلفرق المسرحيَّة.
وبهذا، يصحُ القول بأنَّ الحركة الأيديولوجيَّة في تلك الفترة سمحت للريحاني أن يرتفع بِأعماله إلى مُستوى المسرح الاجتماعي الأخلاقي، فأطلق على مسرحيَّته المُقتبسة عن «توپاز» عنوان «الجنيه المصري»، وناقش فيها مادية المجتمع وفساده بِمرارة المثالي البائس. وقد بدأ عرض هذه المسرحيَّة في 3 (ديسمبر) 1931م المُوافق فيه 23 رجب 1350هـ، بِمسرح «الكورسال» الأرُستقراطي. وقد سقطت المسرحيَّة على الفور، وبلغ إيراد الافتتاح ثلاثين جُنيهًا، ثُمَّ انخفض في الليلة التالية إلى ستَّة جُنيهات، وإلى ثلاثة جُنيهات في الليلة الثالثة.
فقد استقبل الجُمهُور المسرحيَّة بِفُتور، واختلفت بِشأنها آراءُ النُقَّاد، فالمسرحيَّة – من وجهة نظر الجُمهُور – غير مُشوِّقة، لِخُلوِّها من «الفارس» والمُوسيقى، اللذين كانا – حتَّى ذلك الوقت – عُنصرين رئيسيين في كوميديا الريحاني، وقد اعتاد عليها الجُمهُور طيلة أربعين سنة من تاريخ المسرح المصري، كما لم تضم شخصيَّات نمطيَّة ومواقف مُضحكة أو هزليَّة.
كانت خيبة الأمل التي تلقَّاها الريحاني بعد فشل مسرحيَّته مُرَّةً للغاية، ولأنَّهُ كان واقعًا تحت رحمة الجُمهُور، فإنَّهُ لم يكن يستطيع اعتزلهم ومفاهيمهم، أو أن ينتظر مجيء جُمهُورٍ أكثر نُضجًا. وهو على عكس مُعاصريه – مثل توفيق الحكيم – لم يكن يستطيع أن يكتب للمدى البعيد، فقد كان مُرتبطًا بالمنصة مُباشرةً. لِذلك وصف مسرحيَّته التالية بِأنَّها «انتقامه من الجُمهُور»،
وهي استعراض فرانكوعربي بِعنوان «المحفظة يا مدام». وقد جاءت شبيهة بِإنتاج العشرينيَّات، من حيث أنَّها تتألَّف من سلسلة من المشاهد المُفكَّكة المليئة بالنِّكات والمُؤثرات الكوميديَّة والاستعراضات الرَّاقصة. وكان المسرح يحتشد بالمُتفرِّجين كُل ليلة. والعرض الثالث في ذلك الموسم هو مسرحيَّة «الرفق بالحموات» لِأمين صدقي. ويبدو أنها لم تلقَ نجاحًا كبيرًا، بِدليل أنَّ عرضها لم يستمر سوى أُسبوعٌ واحد.
وأخيرًا، أخرج الريحاني – في شهر (مارس) – استعراضًا موسيقيًّا آخر بِعنوان «أولاد الحلال». وبِهذه المسرحيَّة انتهى الموسم
وقد ذاق الريحاني المرارة لِسُقوط «الجُنيه المصري»، لِأنَّهُ أحسَّ بِإخفاقه في الارتفاع بِذوق الجُمهُور وأنَّهُ فقد معهُ الأمل في تحقيق ذلك. وقد ضاعف من مرارته، أنَّ الدولة منحتهُ الجائزة الرابعة فقط عن هذا الموسم، على حين نال يُوسُف وهبي الجائزة الأولى. وقد اضطرَّ الريحاني إلى الاستدانة لِتغطية نفقات هذه المسرحيَّة.
نتيجة هذا الفشل وما تلاه من إحباط، فكَّر الريحاني باعتزال المسرح. وبعد فترةٍ طويلةٍ من الراحة، وافق على العمل بِمسرح «الفانتازيو» الصيفي بالجيزة، الذي عُرف باسم «سمر فوليز» (بالإنجليزية: Summer Follies). هُناك كانت الفرقة تُمثِّل – في أغلب الأيَّام – مسرحيَّة مُختلفة في كُل ليلة. وكان يُقدَّم بِمُصاحبة العُروض – التي كانت تتراوح بين مسرحيَّاتٍ قديمةٍ مُعادة مثل «ياسمينة» وأُخرى حديثة – استعراضاتٍ راقصة وأغاني ومونولوجات. وقد صادف الموسم الصيفي نجاحًا عظيمًا بِسبب إقامة العُروض في الهواء الطلق وانخفاض أسعار الدُخول بِأكثر من نصف أسعار المسارح الشتويَّة. لكنَّ الريحاني أحسَّ – مع اقتراب موسم الشتاء – بأنَّهُ لا يستطيع مُواجهة جُمهور القاهرة. لِهذا قرَّر القيام بِرحلةٍ إلى بلاد المغرب: تُونُس والجزائر ومُرَّاكش. وكان يأمل من وراء هذه الرحلة دعم مركزه المالي المُهتز. وعندما وافق أحد الخواجات على تمويل الرحلة في مُقابل نسبة من الأرباح، أسرع بالسفر في شتاء سنة 1932 – 1933م،
بعد أن تمَّ الصُلح بينه وبين بديعة مصابني، التي رافقته في رحلته هذه إلى المغرب
طعم النجاح
استُقبل الريحاني بِحفاوةٍ في البُلدان التي زارها.
هُناك مثَّل بعض أوپريتاته القديمة من أمثال: «الشَّاطر حسن» و«الليالي الملاح» و«ليالي العز» و«البرنسيس». وقد مثَّل هذا اللون بالذَّات لِأنَّ الجُمهور العربي غير المصري كان ما زال يتذوقه. لكنَّ الرحلة انتهت بِكارثة ماليَّة، فقد سبَّب لهُ المُتعهِّد المُحتال خسائر ماليَّة فادحة، حتَّى إنَّهُ أفلس في نهاية الرحلة
وعندما عاد إلى القاهرة – في شهر أبريل) 1933م – بدأ يُواجه مزيدًا من المتاعب، لِأنَّ الحُكومة المصريَّة حرمته من المُساعدة الماليَّة عن تلك السنة، نظرًا لِتغيُّبه عن الموسم المسرحي. بِجانب هذا، فقد تشاجرت معه بديعة وشنَّت عليه حملة في الصُحف، مُتهمةً إيَّاه بِأنَّهُ فنَّانٌ كسولٌ. هذه العوامل وحدها، ضاعفت آلامه وجعلته أشد عداءً لِلمسرح. وفكَّر – مرَّة أُخرى – في الاعتزال بحُجَّة أنَّهُ بدأ يكره المسرح.
وفي تلك الفترة، أتاه عرضٌ من أحد الأثرياء الشوام المدعو «إميل خوري»، والمُقيم في فرنسا، يدعوه لِتمثيل فيلم عربي في باريس من إنتاج شركة «إخوان جومون» الفرنسيَّة، فقبل على الفور
وكان الريحاني مُفلسًا تمامًا حتَّى أنَّ خوري أرسل إليه تذكرة السفر، ولمَّا وصل إلى باريس وقَّع عقدًا لِتمثيل أفلام ثلاثة لِمُدَّة ثلاث سنوات سنويًّا.
والظاهر أنَّهُ لم يكن ينوي العودة إلى المسرح. وحمل الفيلم الأوَّل عنوان «ياقوت»، وتناول قصَّة موظف مصري طيِّب يشغل وظيفة مُتواضعة، وفجأة يبتسم لهُ الحظ ويُصبح ثريًّا.
ووصف الريحاني هذا الفيلم أنَّهُ جاء هزيلًا، وتمَّ بإمكانيَّاتٍ فقيرة. لكنَّ عزاءه الوحيد هو أنَّ الفيلم ملأ جُيوبه الخاوية بالمال.
وفي باريس تلقَّى الريحاني برقيَّة تتعجَّل عودته إلى القاهرة، ويعرض عليه مُرسلها العمل بِمسرح «برنتانيا»،
ففرح الريحاني فرحًا كبيرًا لِهذه الفُرصة. فقد كان كارهًا للسينما على الدوام، وتضاعف كُرهه لها بعد فيلم «ياقوت»، كما كان يشعر بالحنين إلى المسرح كما قال في مُذكراته: «… فَفَكَّرتُ فِي ذَلِكَ الفَنِّ الجَمِيلِ الذي أَحبَبْتُه مِن كُلِّ قَلبِي، وَتَمَلَّكت هِوَايَتَهُ نَفسِي، وَاحتَلَّ حُبَّهُ فُؤَادِي، حَتَّى صَارَ كَالحَسنَاءِ التي أَخلَصَت لِي وَأخلَصتُ لَهَا. فَهَل أَستَطيعُ هَجرَ هَذهِ المَعبُودَة؟ كَلَّا… وَأَلفُ مَرَّةٍ كَلَّا».
من أجل هذا أبحر الريحاني عائدًا إلى مصر في شهر (ديسمبر) 1933م.
اكتشاف الأختين زينب وأمينة شكيب
(مارس) 1934م المُوافق فيه 26 ذو القعدة 1352هـ، عاد الريحاني إلى المسرح بالكوميديا الجديدة: «الدُنيا لمَّا تضحك»، وقد حقَّقت المسرحيَّة نجاحًا طيبًا، كما كان لِعودة الريحاني وقعٌ عظيمٌ في نُفوس المُتفرجين، الذين امتلأ بهم المسرح ليلة الافتتاح، ويصف الريحاني في مُذكراته هذا الحدث قائلًا أنَّ الجُمهُور استقبلهُ بِعاصفةٍ من التصفيق عقدت لسانه، فبكى مُتأثرًا.
وغفر الريحاني لِلجُمهُور كُل ما بدر منه، وخفَّت – بِمُرور الوقت – المرارة التي ذاقها بِفشل «الجُنيه المصري». وفي هذا الموسم ضمَّ الريحاني إلى فرقته عدَّة أسماء جديدة، منها: بشارة واكيم الذي كان يتمتَّع بِموهبة الحُضور الكوميدي – على المنصَّة – بِدرجةٍ تلي الريحاني مُباشرةً، كما ضمَّ ماري مُنيب التي تخصصت في أدوار الحماة، بالإضافة إلى فؤاد شفيق، ومحمود رضا، وتوفيق صادق، وحسن فائق، وجُبران نعُّوم، وعبدُ الفتَّاح القصري. وفي الفترة الباقية من الموسم، مثَّل الريحاني – بدلًا من «الدُنيا لمَّا تضحك» – مسرحيَّة من لونه القديم، ثُمَّ اتُفق على إحياء موسم الصيف بِمسرح «لوناپارك» الصيفي بالإسكندريَّة. وهُناك ظلَّت الفرقة تعمل حتَّى نهاية شهر أيلول (سپتمبر). وفي
(أكتوبر)، وقَّع الريحاني عقدًا مع فتاة شاميَّة جميلة هي زينب شكيب التي اشتهرت باسم «زوزو شكيب»، وفي وقتٍ لاحق انضمَّت إلى الفرقة شقيقتها أمينة التي اشتهرت باسم «ميمي شكيب». وفي تلك الفترة تقريبًا انضمَّ استيفان روستي أيضًا إلى الفرقة، وأصبح عُضوًا دائمًا بها. وقد كتب بديع خيري – في صحبة هذه الفرقة القويَّة – كوميديتين جديدتين لِموسم 34 – 1935م، أولاهُما: «الشَّايب لمَّا يدلَّع»، التي اعتبرها الريحاني كوميديا اجتماعيَّ أخلاقيَّة راقية.
أمَّا المسرحيَّة التالية فكانت استعراض بِعنوان «الدُنيا جرى فيها ايه؟»، التي مُثِّلت في 23
فبراير) 1935م المُوافق فيه 20 ذو القعدة 1353هـ، وقد أحيا فيها الريحاني صيغة «كشكش بك». وقُرب نهاية
(فبراير)، مرُض الريحاني أثناء العرض. وعندما علم الجُمهور أنَّ نُقودهم ستُرد إليهم، أصرّوا على مُواصلة العرض بِدافع من حماسهم الشديد للريحاني. واستمرَّ الريحاني في تمثيل دوره تلك الليلة. لكنَّ الفرقة توقفت في الأيَّام التالية، حتَّى شهر (مارس). ولمَّا استردَّ الريحاني صحته، قدَّم هاتين المسرحيتين في جولةٍ بالأقاليم المصريَّة. وبانتهاء هذا الموسم انتهت تلك المرحلة من حياة الريحاني الفنيَّة، واقترب من قمَّة تطوُّره وعطاءه كفنانٍ ناضج
مرحلة الفنَّان الناضج (1935 – 1939م)
عدَّة أزمات اقتصاديَّة نجم عنها الكثير من الأزمات الاجتماعيَّة والمشاكل المعيشيَّة، وفي تلك الفترة نمت البُرجوازيَّة المصريَّة بشكلِ ملحوظ، نتيجةً لانتشار التعليم من جهة، ولِلتوسُّع في إقامة الصناعات من جهةٍ أُخرى. وحتَّى سنة 1930م كانت غالبيَّة دور الصناعة المصريَّة ملكًا للأجانب الأوروپيين، ولكنَّ المصريين أخذوا – بعد سنة 1930م – يملكون العديد من المُنشآت الحديثة. وقد أدَّى اتساع رقعة المُستهلكين الوطنيين لِلسلع الحديثة، إلى تنمية نشاط التُجَّار والماليين المصريين، الذين كونوا مع الصناعيين طبقة غنيَّة. وأصبح صغار الموظفين والعاملين عُرضة استغلال أصحاب الرُتب الكبيرة، كما ترافق كُل ذلك مع فسادٍ سياسيٍّ في دوائر الدولة. فشكَّلت كُل تلك المواضيع مادَّةً دسمةً استند عليها الريحاني في مسرحيَّاته التالية، لِتسليط الضوء على مشاكل المُجتمع العديدة.
حملت أولى مسرحيَّات الريحاني لِتلك الفترة عنوان «حُكم قراقوش»، وهي تُعتبرُ ساتيريَّة، وتتحدث عن الاستبداد السياسي الذي جرى في عهد رئيس الوُزراء إسماعيل صدقي باشا، وتسخر منهُ ومن الملك فُؤاد الأوَّل وسائر حاشيته، بعد أن أقدم صدقي على إلغاء النظام الديمُقراطي من خِلال حل البرلمان وإلغاء دُستور سنة 1923م الذي كان يحمي كُل الحُريَّات، واستبدل به دُستورًا آخرًا، وأطلق يد الملك، وعدَّل النظام الانتخابي وأخضعهُ لِرقابةٍ صارمة.
ولم تكن الأحزاب السياسيَّة المُتشاحنة تجرؤ على الثورة، خشية أن يؤدي ذلك إلى مزيدٍ من التدخُّل البريطاني. وهكذا انغمس الملك والحُكومة بالصراع على السُلطة مع مُختلف الأحزاب ذات المطامع السياسيَّة، مُتناسين شقاء الجماهير وبؤسها. ومن تلك الشقَّة الهائلة – التي كانت تفصل بين الحاكم والمحكوم – وُلدت الفكرة الرئيسيَّة لِمسرحيَّة «حُكم قراقوش»، التي قُدِّر لها أن تكون دُرَّة أعمال الريحاني المسرحيَّة. أدَّى الريحاني في هذه المسرحيَّة دور «بُندق»، وهو إنسانٌ فقير سيّئ الحظ، يجد نفسه – بِتدخُلٍ من القدر – في قصر السُلطان، حيثُ يؤدي دور الحاكم لِفترةٍ قصيرة. وتجري أحداث المسرحيَّة في أثناء حُكم بهاء الدين قراقوش، الذي عيَّنهُ السُلطان صلاح الدين الأيوبي حاكمًا على القاهرة، في القرن الثاني عشر الميلاديّ، واشتهر بِقسوته وشدَّته حتَّى أصبحت عبارة «حُكم قراقوش» كناية مصريَّة خُصوصًا وعربيَّة عُمومًا يُكنى بها الاستبداد السياسي، مما كان يتناسب مع تلك الفترة من تاريخ مصر. كانت مسرحيَّة «حُكم قراقوش» أقوى ساتيرات الريحاني حتَّى ذلك الوقت، وقد نجحت على الفور، وغصَّت الصالة بالمُتفرجين كُل ليلة. وقد شاهد إسماعيل صدقي باشا هذه المسرحيَّة، وهنَّأ الريحاني عليها شخصيًّا. وقد عُرضت تلك المسرحيَّة على مسرح «ريتس» – الذي عُرف بِمسرح رمسيس سابقًا – الذي انتقل إليه الريحاني مع فرقته واستمرَّ يعمل به حتَّى اعتزاله
حتي الاعتزال
استمرَّ عرض «حُكم قراقوش» حتَّى 4 يناير) 1936م المُوافق فيه 10 شوَّال 1354هـ، وتلتها مسرحيَّتان جديدتان. أولاهُما مسرحيَّة «مين يعاند ست»، التي مُثِّلت في 23 (يناير) 1936م المُوافق فيه 29 شوَّال 1354هـ. والمسرحيَّة الثانية هي «فانوس أفندي»، التي بدأ عرضها في 16 أبريل) 1936م المُوافق فيه 5 صفر 1355هـ. وانتهى الموسم في شهر (أبريل)، واحتفل الريحاني وخيري بنجاحه بأن قاما بِإجازةٍ قصيرةٍ إلى قبرص. وفي شهر أغسطس) 1936م، وقَّع الريحاني عقدًا مع مسرح «الهمبرا» بالإسكندريَّة. وكانت فرقته تتألَّف حينها من: عبدُ العزيز خليل، واستيفان روستي، وحسن فائق، وفيليپ كامل، وعبدُ اللطيف جمجوم، ومُحمَّد حسن الديب، وبشارة واكيم، ومُحمَّد كمال المصري، وعبدُ الفتَّاح القصري، وماري مُنيب، وميمي شكيب، وزوزو شكيب، وزينات صدقي، ومُحمَّد مُصطفى، وسيِّد سُليمان، ومُحمَّد حلمي، وعبدُ العزيز يُوسُف، ومُحمَّد لُطفي. وقد ظلَّت هذه الفرقة تعمل دون تغييرٍ يُذكر، حتَّى وفاة الريحاني. وفي نوڤمبر) 1936م، افتتح الريحاني موسمه الشتوي بِمسرحيَّةٍ جديدةٍ عنوانها «قسمتي».
ولقد أحبَّ الجُمهُور المسرحيَّة الأخيرة، كما أطرى النُقَّاد واقعيَّتها ونكاتها الفكهة المرحة، وقد وُصف الحوار بِأنَّهُ مُضحكٌ لِلغاية «حتَّى إنَّهُ لم يدع لِلمُتفرِّج لحظةً واحدةً يستريح فيها من الضحك المُتصل».
ووصف ناقدٌ آخر الحوار الذي جاء بالمسرحيَّة بأنَّ كُل لفظ فيه أتى يحمل معنى ومغزى، وكُل حادثةٍ طوت عبرًا وعظة، مُعتبرًا رواية الريحاني من الروايات العالميَّة.
وعقب انتهاء عرض مسرحيَّة «قسمتي»، مُثِّلت مسرحيَّة جديدة بِعنوان «مندوب فوق العادة»، وكما حدث لِمسرحيَّة «قسمتي»، فقد أثنى عليها النُقَّاد ثناءً عطرًا لِنكاتها وحوارها الذكي، وأشار كُل من شاهد المسرحيَّة أنَّ تمثيل الريحاني يقترب من الطبيعة.
وقد أثنى نُقَّادٌ آخرون على الريحاني من أجل اللون المحلِّي الصادق الذي انفردت به مسرحيَّاته، وسمات شخصيَّاته الواقعيَّة. كذلك امتدحت كُل المقالات النقديَّة الريحاني المُمثِّل، كما امتدحت المسرحيَّة. حتَّى صحيفة «المنبر» – التي كانت قد هاجمته بِقوَّة في أوائل العشرينيَّات – عادت فلقَّبته «أُستاذ الكوميديا في مصر».
وقد كان لِنجاح هذه المسرحيَّات أبلغ الأثر في رفع الروح المعنويَّة لِلريحاني، ممَّا جعلهُ أن يُقرر أن يستضيف جُمهُوره لِمُشاهدة استعراض مُمتع حول شخصيَّة «كشكش بك» المحبوبة. وهذا الاستعراض بِعنوان «الدُنيا على كف عفريت»، وهو عبارة عن كوميديا موسيقيَّة كاملة، مكتوبة على طريقة استعراضات العشرينيَّات، وفيها طرق الريحاني موضوع المال من جديد، فشنَّ عليه أعنف حملاته مُبينًا كيف أنَّهُ المسؤول عن جميع الشُرور بالمُجتمع، وأنَّهُ مسؤولٌ عن انحراف العدالة. وقد ظفرت هذه المسرحيَّة بِثناء النُقَّاد. وبانتهاء عرض «الدُنيا على كف عفريت»، انتهى موسم 36 – 1937، الذي كان من أنجح المواسم التي قدَّمها الريحاني، ونال عنهُ الريحاني تقدير الجُمهُور والنُّقَّاد كفنَّانٍ موهوب. وفي سنة 1937م أيضًا، انتهى الريحاني من كتابة مُذكراته، وكان قد بدأ بِنشرها مُسلسلة بِمجلَّة «الاثنين» مُنذ سنة 1936م.
غول السينما
وفي موسم 37 – 1938، عاد الريحاني إلى السينما. وكان يكره هذا الفن، لكنَّهُ كان يرى فيه غولًا يجب اللحاق به. ومن ثُمَّ، كان عليه أن يُواجه تحدِّي العمل في مجالٍ آخر. وكان فيلمه السابق حامل عنوان «بِسلامته عايز يتجوز» والذي أُنتج سنة 1934م، قد أثبت أنَّهُ مُمثلٌ عاديّ، وأشار الريحاني في مُذكراته أنَّ ذاك الفيلم كان فاشلًا للغاية، حتَّى أنَّهُ كان يود أن يضرب الريحاني لو كان هو مُتفرجًا. وفي الوقت نفسه لم يكن يُريد أن يُقال عنه أنه فشل كمُمثل سينمائيّ، لِذلك قرَّر خوض هذا المجال مرَّة أُخرى.
حمل الفيلم التالي عنوان «سلامة في خير»، وتعاون الريحاني مع بديع خيري على كتابته، مُعتمدان في ذلك على نص مسرحيَّة «قسمتي». وقد ترك المُخرج للريحاني مُطلق الحُريَّة في أثناء التصوير، حتَّى يرضى عن الفيلم. أشاد الناقدون بِهذا الفيلم نظرًا لِمهارة اقتباس القصَّة للشَّاشة، وإلى ارتفاع مُستوى الإخراج، وإجادة المُمثلين أدوارهم بشكلٍ كبير، بما فيهم الريحاني الذي أظهر تفوُّق أدائه الكوميدي الواقعي، من خلال عدَّة أُمور، فقد صرَّح مُعاصروه – الذين عملوا معهُ في الفيلم – أنَّ الريحاني لبس بِالفعل حذاءً ضيقًا في مشهد كان يتطلَّب منه أن يبدو مُنزعجًا من الحذاء الجديد الذي لم يعتد أن يلبس مثله، كما كان يتعمَّد ضبط عمامته الهنديَّة – التي يتخذها السُلطان في الفيلم غطاءً لِرأسه – كما لو كانت طربوشًا، وهو الغطاء الذي تعوَّد أن يُغطِّي به رأسه في حياته اليوميَّة كمُوظف بسيط.
وفي أثناء تصوير فيلم «سلامة في خير» – الذي فُرغ من تمثيله في شهر (نوڤمبر) 1937م – كان الريحاني يعمل بِأحد المسارح الصيفيَّة بِالإسكندريَّة.
وعندما حان موعد افتتاح موسم 37 – 1938 بِمسرحه، لم يكن لديه مسرحيَّة جديدة لِيُقدمها، فاضطرَّ إلى تقديم عرض «قسمتي» في الافتتاح، وقد ظلَّ المسرح طوال عرضها كامل العدد.
وأخيرًا مثَّل الريحاني في 6 يناير) 1938م المُوافق فيه 5 ذو القعدة 1356هـ، واحدة من أكثر كوميدياته شعبيَّة هي «لو كُنت حليوه»، التي تعتمد في موضوعها على كوميديا فرنسيَّة بِعنوان «بيشون» (بالفرنسية: Bichon) لِجان فيليكس ديلوتراز. وفي تلك المسرحيَّة سلَّط الريحاني الضوء على نظام الوقف في مصر لِيُبرهن أنَّ إدارة الوقف وتوزيع إيراداته، كانت تتم بِطريقةٍ مُريبة، ولِعب في المسرحيَّة دور كاتب حسابات بسيط هو «شحاته أفندي». وقد جاء في إحدى المقالات النقديَّة أنَّ المُتفرِّج كان يشعر في وُجود شحاته أفندي – الكاتب البائس – أنَّهُ أمام شخصيَّة يراها كُل يوم.
وفي تلك الفترة، بلغ الريحاني مكانةً رفيعةً جدًا بين جميع الفنانين المصريين، حيثُ أنَّهُ أخذ يُدعى إلى البلاط الملكي لِلتمثيل أمام الأُسرة الحاكمة، وكانت أوَّل مرَّة له في شهر (فبراير) من نفس السنة، عندما دُعي لِتقديم عرض في مُناسبة عيد ميلاد الملك فاروق. وقد أشارت الصحافة المصريَّة إلى هذا الحدث باعتباره أوَّل مرَّة ينال فيها فنان مصري مثل هذا الشرف
وسي عمر سلامة في خير
(أبريل) 1938م، كتب الريحاني وخيري مسرحيَّة جديدة بِعنوان «الستَّات ما يعرفوش يكدبوا». وهي كوميديا خفيفة، تعتمد على مواقف وشخصيَّات مغلوطة، وتقول فكرتها الأساسيَّة أنَّ النساء كاذبات بالفطرة. وفي
(نوڤمبر)، أخرج الريحاني ساتيرته التالية حاملة عنوان «استنَّى بختك». وفيها حوَّل الريحاني دفَّة الهُجوم إلى السياسة الداخليَّة والمُعاملات التجاريَّة المشبوهة، في مجالات الصناعة والتجارة النامية. بعد ذلك أخرج الريحاني مسرحيَّةً جديدةً بِعنوان «الدلُّوعة»، وهي تسخر من فتاة غنيَّة خليعة، كما تُصوِّر فساد الجهاز البيروقراطي وتعنُّت صغار الموظفين. وفي أثناء عرض المسرحيَّة، مرُض الريحاني مرضًا شديدًا، نُقل على أثره إلى المُستشفى لِعلاجه. وبعد شفائه، وقَّع عقدًا لِتمثيل فيلمٍ آخر باستُوديو مصر عنوانه «سي عُمر». وظلَّ يعمل بِالفيلم خِلال صيف سنة 1939م، حتَّى انتهى من تصويره مع بداية الخريف.
وعلى الرُغم من انشغال الريحاني في تصوير فيلم «سي عُمر»، فقد استطاع أن يشترك مع بديع خيري في كتابة مسرحيَّة جديدة، لِيفتتح بها موسم 39 – 1940. وقد مُثِّلت المسرحيَّة في صورة استعراض بِعنوان «ما حدِّش واخد منها حاجة»، انتقد فيها الريحاني بعض تقاليد الحياة المصريَّة، كاحتفالات الزواج والمآتم
شهيرة النجار