دفتر احوال مجتمع مصرأرشيف

ستيك هاوس كتاب جديد.. واقعية عالم عادل حمودة لخيال الأثرياء

شارك المقال

يوسف إدريس تعمق في وصف حياة الجنس عند الطبقة المعدمة.

عادل حمودة تعمق في وصف الجنس في عالم ستيك هاوس.

عادل حمودة صدق وصف عيسى له: آبانا الذي علمنا السحر.

عادل حمودة المدرسة الصحفية التي توضع في عالم التأريخ للصحافة بين قوسين، تلك المدرسة التي سحرت زملاء بل أجيال وأنا أولهم قبل أن نعرفه، جعلنا نعشق بلاط صاحبة الجلالة ونتتلمذ على كتاباته فأنا وكثيرون من جيل ادعى أنه مظلوم لم يجد من يعلمه أبجديات العمل الصحفي مثل من سبقونا فكان علينا أن ننكب على مقالات وكتابات الأستاذ لنتعلم كيف نسطر ونرسم مثل حروفه، ولكن حمودة لا يكتب حروفا بل يكتب سحراً ما أن تقع عينيك عليه حتى تؤخذ إلى عالم آخر، علمنا كيف تكون الشخصية الصحفية التي تتبدل مفرداتها عند الكتابة في تحقيق فساد أو قصة نميمة وكيف تتبدل البوصلة حسبما يريد القارئ، خاصة أننا الآن أصبحنا في زمن المعلومة التي تطارد المواطن عن يمينه وشماله كل ثانية بالصوت والصورة لذا كيف يجدد الصحفي وسيلته لربط القارئ بما يكتب في زمن صعبت فيه القراءة، هذا هو عادل حمودة الأستاذ الذى علمني دون أن يدرى درساً محفوراً في ذاكرتي للآن منذ 15 عاماً وهو وقتها ومازال أكبر رئيس تحرير أهم جريدة أسبوعية خاصة مقروءة وأوسع انتشاراً في مصر وهى «الفجر» حيث نزل بنفسه لعمل تحقيق صحفي كان من الممكن أن يرسل بدلاً عنه محقق من قسم التحقيقات ومصور لكنه نزل بنفسه للإسكندرية والحقيقة «غيرت» ويحقق بنفسه في قضية مجنون اقتحم كنيسة في يوم عيد الإخوة الأقباط وقتل منهم من قتل في 2005 سألته طب ليه يا أستاذنا ما طلبتش أعمله أو ترسل أحداً بدلاً منك فرد فيه أشياء لازم أنزل بنفسي أعملها ولازم تعرفي إن الصحفي الحقيقي يظل «ريبورتر حتى لو أصبح وزير صحافة» عادل حمودة الطاقة الإبداعية لم تجرفه الكتابات الصحفية مثلنا بل تجد كل عام مفاجأة في المكتبة العربية كتاب في السياسة حوار مع عملاق بالفن كتاب في الدين، أسفار لأعالي النيل مازال الرجل يؤمن أن الكتاب خير وثيقة تؤرخ للصحفي النادر مثله فهو مازال محافظاً على مدرسة الكتاب عادل حمودة الذى كتب عنه ذات يوم إبراهيم عيسى واصفاً من هو عادل حمودة في سطر واحد «آبانا الذى علمنا السحر» وصدق فمازالت تلك الجملة محفورة في ذاكرتي رغم مرور أعوام وأعوام عن قولها فهي تلخيص لتلك الحالة التي صنعها عادل حمودة دون ألقاب لأن اسمه وحده لقب بذاته لخص ما صنعه الأستاذ في أجيال صحفية تتصدر الآن المشهد الإعلامي نجوماً وكتاباً.

عادل حمودة المدرسة الكشكول عندما يوقع في كتاباته السياسية تعتقد أن الرجل تفرغ لهذا النوع من الكتابة فقط وتعمق فيه لدرجة أنه لا يستطيع أحد مضاهاته أو أنه يمكن أن يكتب في نوع آخر، وعندما يكتب في الدين تعتقد أن الرجل أفنى حياته في الدراسات الدينية من شدة العمق والصوفية وعندما تقرأ حكاية فيها نميمة مزركشة بحلى أدبية تفتح فمك وتقول ما هذا الرجل الذى ينهل من بحر الأدب مثل الذى طالعنا به هذه الأيام كتاب قطعة فنية رائعة يبدو من اسمه أنه كتاب للطهى وهذا لا أستغربه في الأستاذ أن يكتب في صنوف الطعام وفنون الطهى فهو عندما تسمع له وهو يتحدث عن طعام الشعوب التي سافر فيها تفتح فمك وتتشوق معه للمتعة في النقل والوصف دون أن تتحرك من مكانك ويسافر بك بأسلوبه الشيق لعوالم لن تستطيع السفر لها ولكن المفاجأة عند التصفح لكتابه الأخير «استيك» أنك تجد نفسك أمام قطعة أدبية منحوتة بالكلمات حكايات واقعية أعجب من الخيال فتغمرك المتعة بالقراءة لتلك التوصيفات والاختيارات الأدبية والصور البديعة وتقول في سرك كيف لهذا الرجل وهو ينتقل بين الكلمات برشاقة النحلة بين الزهور ويرشف تلك الصور الإبداعية.

لقد تعبنا من اللهث خلفك يا أستاذ بالبلدي لقد أخذت الباب في يدك وأغلقته ورميت المفتاح في بحر عميق فلن يستطيع أحد المرور بعدك فأنت الكنز المختوم بالبهجة والموهبة المتجددة فإذا قرأت فقط عزيزي القارئ مقدمة كتابه «استيك هاوس» ستتأكد فوراً ما سبق وسطرته كان أقل من الحقيقة، وإليكم مقدمة الكتاب.

  1. ستيك هاوس.

الخاتم بجوار المصباح .. الصمت يحل فتعمى الآذان .. فى الصمت يتسلل الإصبع .. يضع الخاتم .. فى صمت أيضا يطفأ المصباح .. والظلام يعم .. في الظلام أيضاً تعمى العيون .. الأرملة وبناتها الثلاث .. والبيت حجرة .. والبداية صمت.

أرملة طويلة بيضاء .. ممشوقة القوام في الخامسة والثلاثين .. مات عائلها منذ عامين بعد مرض طويل .. تنام مع بناتها الثلاث في حجرة ضيقة .. أكوام كبيرة من لحم دافئ بعضها فوق الفراش وبعضها حوله تتصاعد منه الأنفاس حارة مؤرقة وأحياناً عميقة الشهيق.

الصمت الذى يعشن فيه لا يقطعه إلا صوت التلاوة .. مقرئ شاب كفيف .. أعزب لم يدخل دنيا .. تفكر الأم أن تزوجه إحدى البنات .. لكنهن يرفضن «أنصوم ونفطر على أعمى» هن مازلن يحلمن برجال أفضل .. لكنهن يقترحن أن تتزوجه الأم .. ربما يعرف الرجال بيتهن فيتزوجن بعدها .. وتزوجته الأم .. وزاد عدد الأنفس واحدة.

فى الليلة الأولى لم تنم البنات وتحولت الحجرة بوجودهن الصاحى إلى كشافات عيون وسماعات آذان ومجسات إحساس .. فلم يقرب الشاب الأم .. ولكن بالنهار لم تعد هناك حجة .. خرجت البنات ليتركن للأم فرصتها .. وعندما عدن سمعن قهقهات رجل تتخللها سخسخات امرأة .. أمهن .. قابلتهن ولا تزال تضحك .. رأسها عار وشعرها مبلل ممشط .. وجهها الفانوس المنطفئ فجأة أنار.

الصمت تلاشى وكأن إلى غير رجعة .. ضجيج الحياة دب .. الزوج زوجها وحلالها فماذا يعيب؟ كل ما تفعله جائز .. فما الداعي للمواربة أو كتمان الأسرار؟ حتى والليل يجئ وهم جميعاً معا فيطلق العقال للأرواح والأجساد.. والبنات مبعثرات متباعدات ولكنهن يفهمن ويدركن وتتهدج منهن الأنفاس والأصوات.

كان نهارها غسيلاً في بيوت الأغنياء، ونهاره قراءة فى بيوت الفقراء، وكثيراً ما عاد إلى البيت ساعة الظهيرة ليريح جسده .. وذات مرة بعدما شبعا من الليل سألها فجأة عما كان بها ساعة الظهيرة ولماذا وهي المنطلقة لم تتكلم، ولماذا لم تضع خاتم الزواج ساعتها؟

لم يكن لما يقوله إلا معنى واحد .. ما أغربه وأبشعه من معنى .. ولكنها حبست أنفاسها وسكتت حتى تكتشف الفاعلة .. وأدركت أنها الوسطى .. في عينيها جرأة لا يقتلها الرصاص إذا أطلق .. ولكنها بعد «عملتها» أصبحت دوما صامتة.

وتتأمل الكبرى ذات يوم خاتم أمها في إصبعها وتبدى الإعجاب به، ويدق قلب الأم وهى تطلب منها أن تضعه ليوم واحد لا غير .. وفى صمت تسحبه .. وفى صمت تضعه الكبرى في إصبعها المقابل.

وعلى العشاء التالي تصمت الكبرى وتأبى النطق .. وتسأل الصغرى عن دورها في لعبة الخاتم وفى صمت تنال الدور.

والخاتم بجوار المصباح .. وفى صمت يتسلل الإصبع صاحب الدور ويضع الخاتم في صمت .. ولا يبقى صاخبا منكتاً مغنياً إلا الكفيف الشاب.

وراء صخبه وضجته تكمن رغبة تكاد تجعله يثور على الصمت .. إنه هو الآخر يريد أن يعرف .. كان أول الأمر يقول لنفسه إنها طبيعة المرأة التي تأبى البقاء على حال واحد، ناعمة مرة، خشنة مرة أخرى، الخاتم دائماً موجود صحيح، ولكن الإصبع الذى يطبق عليه كل مرة مختلف، إنه يكاد يعرف وهن بالتأكيد كلهن يعرفن فلماذا لا يتكلم الصمت؟ لماذا لا ينطق؟

ولكن السؤال باغته ذات عشاء: ماذا لو نطق الصمت، ماذا لو تكلم؟

مجرد السؤال أوقف اللقمة في حلقه، ومن لحظتها لاذ بالصمت تماماً وأبى أن يغادره.

بالصمت راح يؤكد لنفسه أن شريكة الفراش على الدوام هي زوجه وحلاله وحاملة خاتمه، تتصابى مرة أو تشيخ، تنعم أو تخشن، ترفع أو تسمن، هذا شأنها وحدها بل هذا شأن المبصرين ومسئوليتهم وحدهم، هم الذين يملكون نعمة اليقين، إذ هم القادرون على التمييز، وأقصى ما يستطيعه هو أن يشك شكا لا يمكن أن يصبح يقيناً إلا بنعمة البصر .. وما دام محروماً منه فسيظل محروماً من اليقين إذ هو أعمى، ليس على الأعمى حرج.

  • 2.      “أم على الأعمى حرج؟”

هذا ملخص مجتهد لقصة يوسف إدريس «بيت من لحم» التي اختارها عنواناً لمجموعة متأخرة من أعماله القصيرة توجته ملكاً على هذا النوع المتميز من الأدب حتى وصف بتشيكوف العرب.

صعب تلخيص كاتب جامح متهور يتفجر إبداعياً ونرجسية مثله، بل صعب مناقشته أو نقده أو الاختلاف معه، وإلا خسرته لبعض الوقت قبل أن يعود إلى صوابه معتذراً مبتسماً.

ما إن قرأت القصة حتى طلبت أن ألقاه .. وفى مكتب بيته المطل على نيل العجوزة حملت إليه مفاجأة، إن قصته حقيقية .. أبطالها يعيشون في إمبابة .. بطلها ليس مقرئاً كفيفاً وإنما موظف في الحى، مفتوح العينين، يدرك ما يفعل بزوجته وأم ابنه الوحيد وشقيقاتها الثلاث .. هن مزرعة من الحريم، يحرثها كما يشاء، ويحصدها في الوقت الذى يشاء .. إنها لقمة العيش المغموسة بالذل التي جعلتهن يقبلن بالحرام .. وربما بسبب الجهل – مثلهن مثل ملايين النساء- لم يدركن أنه حرام.

لم يصدق يوسف إدريس ما سمع .. إن أبطال قصته من اختراعه .. نحتهم بسن قلمه حتى دبت فيهم الحياة .. سهر الليالي حتى أقنعهم بالخروج إلى الناس .. فكيف يتقبل أن يأتي إليه من ينسف ما فعل ويخبره بأن من السهل التعرف على أبطاله دون الحاجة للمجهود المضنى الذي بذله؟

وطلب وهو يكتم غيظه أن يعرف ما خفي عن البيت الحقيقي المصنع من اللحم الفاجر.

وافقت على رواية لا أعرف، ولكن على شرط أن نذهب معاً لزيارة البيت ولقاء أصحابه الذين يعرفونه جيداً أو على الأقل سمعوا به وقطعاً سيسعدون به.

وقبل أن يسأل عن السبب بدأت أروى له الحكاية.

بحكم عملي في الصحافة تعرفت على شاعر عامية شاب جاء من بطن الصعيد «يا مولاي كما خلقتني» بحثا عن فرصة في القاهرة، نشر ديوان، بيع أغنية، أو التسكع بين مقاهي وبارات وسط المدينة ليكمل مسوغات تعيينه مثقفاً.

إن نجاح عبدالرحمن الأبنودي وعبدالرحيم منصور أغرى كثيرين من هؤلاء الشعراء الصغار بتقليدهما .. وركبوا القطار وهبطوا القاهرة وهم لا يملكون سوى جنيهات قليلة لا تكفى أسبوعاً .. اعتمدوا على بلدياتهم الذين يسكنون في الغالب إمبابة والكيت كات أو الوراق أو أرض اللواء، ليقيموا عندهم حتى تفرج، دون أن يدركوا أن الفرج في الإبداع يندر أن يأتي.

جاء حمدي أبو عوف إلى القاهرة ومعه كراسة بها أشعاره العامية، ونزل عند رسام كاريكاتير من بلدته في ساقلتة محافظة سوهاج، يسكن إمبابة ويعمل بالقطعة في «روزاليوسف» ويجاورني في صالة التحرير.

لم يطل بقاء أبو عوف عند ابن بلدته .. انتقل بعد أسابيع قليلة إلى شقة سهير محروس، أرملة حرمت من الجمال والرشاقة، مات زوجها بعد أيام من اقترانه بها، ورثت عن أبيها فرناً وعن زوجها بقالة، لم تجد من يقبل بالزواج منها إلا الشعراء الفقراء المجهولون القادمون على فيض الكريم من الصعيد.

تعرض نفسها على الواحد منهم بعد أن تورطه بالاقتراض منها، يا الدفع يا الزواج، ومهما كان قبحها فهي في النهاية امرأة، يفرغ فيها طاقته بعد مغامراته السابقة مع الحيوانات في القرية، ثم والأهم أنها ستطعمه وتكسوه وتؤويه وتنفق عليه مقابل أن يفك النحس عن جسدها الذى لا يكف عن الصراخ من شدة الجوع، وما أن يجد فرصة أفضل حتى يطلقها، لكنها لا تيأس .. فالصعيد لا يكف عن توريد المواهب من العينة ذاتها أو من غيرها.

سهرت أكثر من مرة مع أبو عوف في بيت سهير، وفى إحدى المرات وجدت عندها جارها عبد الغفور السمري الذي يسكن في غرفتين وحمام على سطح البيت، فوجئت به يتحدث عن الرواية التي قرأها لنجيب محفوظ ويوسف إدريس، بل أضاف إليها روايات صعب استيعابها كتبها ديستوفيسكى، وأعترف أنه لم يكن مدعياً فيما يتحدث، ولم ينس أن يشيد بتحقيق صحفي نشرته في «روزاليوسف» عن الخرافات التي يؤمن بها المصريون، فقد كان يحرص على قراءة المجلة، ويتكلم عن محرريها وكأنه يعرفهم عن قرب، كأنهم أصحابه.

وقبل أن أنصرف أصر على دعوتي عنده، وقبلت الدعوة من باب الفضول لمعرفة شخصيته المثيرة بسبب تناقضاتها الحادة بين الثقافة والوقاحة.

يوم الخميس التالي وجدته ينتظرني أنا وأبو عوف .. وجدته يضطجع على سرير مرتفع مصنوع من الحديد، وبجانبه أكوام من الكتب والمجلات.

وراح يخلط تبغ السجائر بنوع من الحشيش الرديء ومسحوق أقراص مخدرة، بينما جاءت زوجته بزجاجة براندي رخيص وأطباق صغيرة بها خيار وطماطم وجبن وفول وخبز جاف.

واعتذرت عن عدم تدخين سجائره فلم يتردد في الإجهاز عليها واحدة بعد الأخرى حتى فقد السيطرة على نفسه، وراح يضرب شقيقات زوجته الثلاث على مؤخرتهن كلما مرت واحدة منهن أمامه .. وأمسك بالصغرى من صدرها طالباً منها أن تدخل معي الغرفة التي تنام فيها مع شقيقتيها قائلا: أدخلى فرجيه على شطارتك.

وخفضت الفتاة من نظرتها إلى حد الانكسار، ومشت إلى الغرفة مستسلمة للأمر، لكنني اعتذرت عن عدم البقاء بحجة تأخر الوقت وطول الطريق إلى بيتي.

لم تمر سوى أيام قليلة حتى وجدت أبو عوف يدخل صالة التحرير ومعه الفتاة قائلاً: “سهام طلبت تشوفك”.

لم أصدق أنها الفتاة المنكسرة التي سبقتني إلى فراش متواضع دون أن أعرف اسمها ودون أن أتعرف على ملامحها بسبب الضوء الشاحب الذي تكاثرت عليه الحشرات الطائرة في بيتها، بدت أمامي جميلة دون مساحيق، ممشوقة رغم فقر الثوب الذي ترتديه، مبتسمة في خجل، وفى صوتها قليل من الحشرجة أو «البحة» المثيرة.

تجنباً لفضول من حولي لمعرفة ما بينه وبينها، واستسلاماً لفضولي في معرفة حكايتها عرضت عليها الذهاب إلى كازينو على النيل، ولكنها طلبت أن ندخل السينما فقد أرادت مشاهدة فيلم «أبى فوق الشجرة» الذي راح الجمهور يحصى عدد القبلات التي تبادلها عبد الحليم حافظ ونادية لطفي، ووافقت على طلبها، وقبل موعد الحفل سمعت منها ما أردت معرفته في كافيتريا بجانب سينما ميامي وهي تلتهم في شراهة ما وضع أمامها من طعام.

تزوج السمري من شقيقتها الكبرى، وانتقلت للعيش معه، بينما بقيت شقيقاتها الثلاث في بيت أبيهن، حتى أصيب الأب فى حادث فقد فيه ساقيه، وحتى تكتمل المأساة قرر الحي إخلاء البيت لهدمه، وأصبحت العائلة الفقيرة المعدمة بلا مأوى إلا بيت الشقيقة الكبرى، وفى الطريق إليها ألقى الأب بنفسه تحت عجلات سيارة نقل مسرعة ليوفر لقمته وفرشته ولا يهين كرامته.

تحت تأثير المخدرات وجدت الفتاة السمري في فراشها ولم يأبه بشقيقتيها اللتين تنامان في الغرفة نفسها، بل إنه نالها وهما يتابعان ما يحدث في صمت لا يخلو من المتعة، وربما السبب أنهما تذكرتا ما سبق أن فعل معهما.

كان يقول لهن “بنت الكلب التي أطعمها لا تكسر لي كلمة ولا ترد لي طلباً؟”.

وفرض الصمت نفسه عليهن فلم تتجرأ واحدة منهن على رفض ما يجرى معها أو مع شقيقاتها، همساً أو سراً.

لم يصدق يوسف إدريس ما سمع وارتفع صوته قائلاً “ابن الكلب يتصرف كالكلاب الضالة، لو رأيته سوف أقتله”.

ولشعوري بجدية ما سمعت من تهديد طلبت من يوسف إدريس ألا نواصل الطريق إلى إمبابة، وأن نتجه إلى مقهى ريش في وسط القاهرة لعله يفرغ طاقته في مشاجراته مع الأدباء الشبان كما تعود دائماً.

سواء كان «بيت من لحم» قصة أو حقيقة فإن أبطالها وقعوا في محظور «زنى المحارم» تلك الفاحشة الاجتماعية المزمنة المتفجرة مثل الصرف الصحي في العشوائيات الفقيرة، حيث لا تفرق الرغبات المحموة بين أجساد حلال وأجساد حرام، فالشهوة في تلك اللحظات تتجاوز بسهولة حدود القربة.

ومثلما كان الصمت اتفاقا بين أبطال القصة وأبطال الحقيقة، فإن الصمت كان أيضاً اللغة التي تعاملت بها الحكومات المصرية مع تلك الكارثة.

كانت التعليمات واضحة، لو عثر على جثة جنين حديث الولادة فى القمامة لا يفتح تحقيق جنائي حتى لا تفضح علاقة محرمة بين المحارم.

فضح تلك العلاقة يضع سلطات الحكم المحلى أمام مسئوليات مباشرة، أولاها: لماذا لم توفر السكن المناسب الذي يمنع هذه الجريمة المدمرة لنفوس مرتكبيها؟

بل إن دراسة الظاهرة لم تنل اهتماماً كافياً إلا في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين حين كسر عالم الاجتماع الموهوب الدكتور أحمد المجدوب حاجز الصمت وأصدر دراسته الجريئة والوحيدة من نوعها “زنى المحارم – الشيطان في بيتنا”.

فى بيته المطل على شارع جامعة الدول العربية رحت أستمع إليه دون أن تعتريني الدهشة .. تغطيتي للجريمة في بداية مشواري الصحفي منحتني حصانة ضد انفلات الصدمة من الرغبات البشرية التي تصل أحياناً إلى القتل للتغطية على علاقة غير مشروعة.

حسب المجدوب: بلغت نسبة زنى المحارم بين أخ وأخته 25٪ وبين أب وابنته 12٪ وبين زوج أم وابنة زوجته 9٪ وبين ابن وزوجة أبيه 6٪ وكلما ابتعدت صلة القرابة تراجعت النسبة فيما عدا زنى الأم وابنها القليلة بطبيعتها في كل دول العالم، عدا اليابان.

في اليابان تخاف الأم على ابنها المراهق من التورط في علاقة جنسية تجبره على الانتحار لو كشفت، فتهدئ من رغبته المحمومة بأن تساعده على الاستمناء خلال النهار في العراء أو في فراش الأسرة ليلاً.

ولا شك أن الإقامة معاً في مكان ضيق يعد العامل الأهم في زنى المحارم بجانب المشاركة في دورات المياه، ولكن الأخطر أن نسبة مفزعة من مرتكبي زنى المحارم يعانون من جهل حاد يجعلهم لا يعتبرونه خطأ أو خطيئة، بل إن بعضهم يحرص على الصلاة بانتظام، ويصوم رمضان بصبر وإيمان ويقطع من لحمه ليدخر تكاليف الحج أو العمرة.

لكن لو كان الفقراء يتورطون في الرذيلة بسبب ضيق الحال ويمارسونها وهم يعلمون بأنها حرام، فإن هناك من راح يعظ الناس بتشدد وهو غارق في زنى المحارم.

كان ذلك الداعية يحمل شهادة علمية عليا واختار توجيه رسائله الإيمانية من فوق منبر مسجد شهير في حي متميز من أحياء القاهرة، وحملت تلك الرسائل سهاماً مسمومة ضد الأقباط مسبباً فتنة دعمت تنظيمات إرهابية ومنحتها مبرراً للقتل والتفجير وسرقة محلات ذهب غير المسلمين.

وشاعت شرائطه وجنت النساء به ورحن يدافعن عنه بضراوة، فقد وعدهن بالتوبة ومنحهن صكوك دخول الجنة.

ولكن فجأة انسحب من مكانه، واختفى من مصر بعد أن فرضت عليه أجهزة الأمن السياسي مشاهدة فيديو يصوره عارياً في فراش شقيقة زوجته.

سافر إلى باكستان ونجح في احتلال منابرها، مستغلاً حالة العداء الشديد بين الهندوس والمسلمين، بل إنه دعا إلى الجهاد من أجل تحرير كشمير من الهنود، السلطة الحاكمة في نيودلهي.

إن زنى المحارم لا يشترط أحياناً ظروفاً معيشية صعبة، فالذين وسع الله عليهم يرتكبونه أيضاً، كما أن التطرف الديني كثيراً ما يكون غطاء لانحرافات نفسية حادة، وهناك شهادات مخزية عن ما بين الرجال والنساء في تنظيمات إرهابية كشفها أعضاء تائبون عنها.

أمير التنظيم يملك وحده قرار الزواج والطلاق ومدة العدة ونسب الأولاد، فهو ظل الله على الأرض، وعلى يده تتجدد الشريعة، حسب هواه.

إن الدين في حالات كثيرة يستخدم طلباً للمغفرة من الفاحشة التي ارتكبت، لكن اللافت تكرار الفاحشة، وتكرار التوبة.

على أن هناك من يحرص على الشعائر دون أن يتراجع عن المعاصي.

لم يكن يوسف إدريس على قيد الحياة عندما نشرت تحقيقات قضية رشوة تورطت فيها مهندسة محجبة في أحد أحياء الجيزة مع مقاول شهير.

لم تكتف المرأة بالمصوغات الذهبية التي تتلقاها مقابل التغاضي عن أخطاء المقاول في المباني الحكومية المكلفة باستلامها، بل دخلت في علاقة مع المقاول رصدتها مكالماتهما التليفونية التي سجلت لهما.

لكنها لشدة تدينها كانت ترفض أن تلقاه يومي الاثنين والخميس لأنها تصومهما ليبارك لها الله فيما رزقت، كما أنهما كان ينهيان مكالمتهما الجنسية بنطق الشهادتين.

ولكن للإنصاف فإن يوسف إدريس سبق أن صاغ ذلك التناقض في قصة «أكبر الكبائر» التي نشرها في نفس مجموعة “بيت من لحم”.

محمد شاب في الثامنة عشرة وإن كان يبدو في الثامنة والثلاثين.

كل تجاربه بدأت مع الحيوانات، كل الحيوانات من الماعز إلى الأبقار والجواميس .. في يوم صيفي حار ينقل السباخ إلى الغيط البعيد جرياً وراء الحمار.. استبد به العطش، عرج على بيت الشيخ صديق ليشرب من زير زوجته أم جاد المولى النظيف والمقطر.

شرب كوزين وارتوى .. أحس بأنه مدين لصاحبة الدار التي يسمونها الشيخة «صابحة» التي تلف رأسها بطرحة بيضاء وتداوم على الصلاة ولا تسلم إلا وقد أحاطت يدها بثوبها حتى لا تنقض الوضوء .. لم يلحظ أنها ترمقه منذ دخل البيت .. كان بصرها مستقراً على ساقيه السوداوين والملبدتين بالشعر .. وقارنت بين ساقيه وساقي الشيخ صديق الهزيلة والرفيعة كالبوصة.

بل أكثر من ذلك بدأ الشيخ صديق منذ أربع سنوات يغالى في التدين وصلاة الفجر والتراويح ويسهر الليالي في الموالد يذكر ويجعل من نفسه إماماً للذاكرين والسادة الأولياء وكبار الواصلين ويفرض عليها الطرحة والسبحة.

طلبت الشيخة صابحة من محمد أن يصنع معروفاً ويرفع بلاص الماء الاحتياطي ويدلقه في الزير .. بس كده .. وبجذبة واحدة رفع البلاص إلى حافة الزير ليمضي الماء على دفعات ضخمة هادرة.

لم يلحظ محمد أنها وقفت بجواره أمام الزير بدعوى أنها ستساعده وتبادل جذب البلاص حتى احتك كوعه بطرحتها البيضاء فأزاحها قليلاً واحتك بذراعه فانلته بثوبها وبالذات سمانة ساقه بجانب ساقها.

هنا أحس أنها امرأة وبالغريزة لف ذراعه وراء رقبتها.. وحاولت التملص منه بدعوى أنه نقض وضوءها .. لكنه لم يتركها .. على أنها خشيت أن يأتي الشيخ صديق الذى يصلى الظهر .. وعرضت عليه العودة بعد العشاء لأنه سيكون في المولد.

وفى نوبة جنون ضمها محمد حتى كاد يحطم ضلوعها ورفعها ودار بها هي والبلاص فرحاً بأكبر وأعظم وأروع فرحة مرت بحياته.

وكان لقاء، هو بنفس الفانلة واللباس وبوجه خشن حافل بالبقع والثقوب وهى بجسدها القصير الأصفر، صفرة لا سبب لها ولا تفسير، وبابتسامتها المتدلية، لكن محمد لم يلحظها، فقد كان عقله مع الخوف من عودة الشيخ صديق والله والجيران، على أن جسده مشغول تماماً بجسدها وكلاهما واقف وكلاهما يرتعش والدنيا مظلمة ظلاماً ليس فيه بارقة أمل.

ومهما كان حكمك عليهم فهم في الحقيقة جزء من حياتك وحياتي.

أحياناً على الهامش.

وغالباً في العمق.

ربما تقابلهم في مناسبات وطنية.

ربما تقرأ لهم.

ربما تشاهدهم في سينما أو مسرح أو برنامج توك شو.

المؤكد أنك ستعجب بهم وتتمنى أن تكون مثلهم.

فهل ستحافظ على مشاعرك الراقية لو عرفت حقيقتهم؟

خذ نفساً قبل أن تحكم عليهم!

مقدمة كتاب steak house.

شهيرة النجار