عزوف الجمهور عن المسرح
كيكي اليونانية لم تملأ فراغ بديعة
وفاة سعد زغلول ضربت موسمه المسرحي
مرحلة الفوضى الفنيَّة (1926 – 1931م)
والصدام مع يوسف وهبي
لم يقم الريحاني بِنشاطٍ مُنتظم بين سنتيّ 1926 و1931م. فقد تاه فجأةً خط النُموِّ المُطرد لِأعماله، وسط جوٍّ مشحون بالاضطراب الفنِّي والمتاعب الماديَّة والأزمات العاطفيَّة. وقرَّر الريحاني وقتها أن يهجر الكوميديا إلى الميلودراما، بعد أن أخذت تشق طريقها بِنجاحٍ مُتزايدٍ مُنذ أن تبنَّاها يُوسُف وهبي. وكانت هي الأُخرى قد ظهرت في أعقاب الثورة الوطنيَّة، في وقتٍ بدأ المصريُّون فيه يُدركون معنى المُساواة الاجتماعيَّة. ومُنذ أن هبطت الميلودراما بالانفعالات والأحداث إلى مُستوى الإنسان العادي، فقد صادفت استجابةً فوريَّةً في نُفوس الجماهير.
فلِأوَّل مرَّة في تاريخ المسرح الجاد في مصر، تُشاهد الطبقة المُتوسِّطة صورتها في مسرحيَّات اجتماعيَّة مُعاصرة. وكان يُوسُف وهبي هو أوَّل من قدَّم للجُمهور المصري أوَّل دراما اجتماعيَّة باللهجة العاميَّة.
وقد أثنى النَّاس على وهبي في كُل مكان، لا سيَّما في الأماكن التي كان أهلُ الفن يترددون عليها، كمقهى «فينكس» بِشارع عماد الدين، حيثُ كان الريحاني يُمضي أوقاته، بعد انفصاله عن أمين صدقي. وفي الوقت نفسه كان يُفكِّر في اتخاذ قرار بِشأن مُستقبله، إذ لم تكن لهُ فرقة بعد أن حلَّ فرقته قبل سفره إلى أمريكا الجنوبيَّة، ولا بطلة بعد أن تركته بديعة لِتعمل في صالتها، ولا مُؤلِّف لانشغال خيري في كتابة أوپريتات الكسَّار، ولا مسرح لأنَّ «برنتانيا» كانت تشغله المُطربة الشهيرة مُنيرة المهديَّة.
وكان الريحاني ما زال يطمح في أن يُصبح مُمثلًا تراجيديًّا، وبخاصَّةً بعد نجاحه في مسرحيَّة «ريَّا وسكينة»، ويبدو أنَّ نجاح وهبي زاده إصرارًا على هذا الأمر. وذات يومٍ، بينما كان الريحاني جالسًا بالمقهى سالف الذِكر، بلغتهُ أنباء بِأنَّ نُجوم فرقة وهبي قد اختلفوا مع صاحبها، وانسحبوا منها.
ووجدها الريحاني فُرصةً ثمينةً، فبادر باقتناصها، وتعاقد معهم جميعًا، وقرَّر لهم أُجورًا أعلى من أُجورهم السَّابقة
واستطاع بذلك تكوين فرقة من أقدر مُمثلي الميلودراما، وعلى رأسهم: روز اليُوسُف، وعزيزة أمير، ومُنسَّى فهمي، وسرينا إبراهيم، وحسن البارودي، وحُسين رياض، وأحمد علَّام.
أمَّا بالنسبة للمسرح، فقد كانت هُناك صالة خالية مُجاورة لِمسرح «رمسيس» ومُلحقة بِمقهى اسمه «راديوم»، فاستولى عليها الريحاني وحوَّلها – خلال شهرين – إلى مسرح جيب أنيق، وزيَّنهُ بِتصميماتٍ بديعةٍ، وأطلق عليه «مسرح الريحاني».
بقيت أمام الريحاني خُطوة أخيرة، هي الاستعداد لِتقديم مسرحيَّات مُناسبة. فوقع اختياره على ست مسرحيَّات أوروپيَّة مشهورة، وعهد إلى بعض المُترجمين بِمُهمَّة نقلها إلى العربيَّة الفُصحى.كما كلَّف أنطون يزبك بِتأليف مسرحيتين.
وفي شهر (يونيو) 1926م، أعلن عن مشروعه الجديد.
لكنَّ هذه الأنباء قوبلت بازدراء وتشكُّك. وتساءل أحد الكُتَّاب باستهزاء: «هَل يَطمَع كِشكِش فِي أن يُبكِينَا كَمَا أَضحَكَنَا طِوَالَ هّذِهِ السَّنَوَات؟»، وأعرب آخرٌ عن ارتيابه في مقدرة الريحاني على تمثيل الأدوار الجادَّة، مُعتبرًا أنَّ سبب نجاحه طيلة هذه الفترة كان الفُكاهة والكوميديا، أمَّا الأدوار الجادَّة فلا دليل على نجاحه بها إلَّا من خلال مسرحيَّة «ريَّا وسكينة»
على الرُغم من هذه البداية غير المُشجعة، فقد افتتح الريحاني مشروعه الجريء في أوَّل شهر (نوڤمبر) 1926م، بِمسرحيَّة «المُتمرِّدة» (بالفرنسية: L’Insoumise) لِپيير فروندي وترجمة فؤاد سليم. والفكرة الأساسيَّة في هذه المسرحيَّة هي حكمة الشاعر البريطاني روديارد كپلينگ القائلة بأنَّ الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبدًا. وتدور أحداث المسرحيَّة في بيئةٍ من الأرستُقراطيَّة الباريسيَّة المُعاصرة، حول غرامٍ عنيفٍ بين سيِّدةٍ فرنسيَّةٍ تُدعى «فابيين» (روز اليُوسُف)، وبين أميرٍ مُرَّاكشيّ يُدعى «فاضل» (الريحاني)، وكيف يصطدم غرامهما بِطباع كُلٍ منهُما: الطباع الفرنسيَّة المُتحرِّرة والمُرَّاكشيَّة العربيَّة والإسلاميَّة المُحافظة. وقد أكَّدت ليلة الافتتاح صدق المخاوف التي كانت تُراودُ البعض، فقد استقبل الجُمهُور مشروع الريحاني الجديد بِتشكُّك، مع أنَّ أحد النُقَّاد المُتعاطفين مع الريحاني والمُتحمسين لِإنتاجه الجديد ذكر في مقاله أنَّ الجُمهُور تأثَّر بِدور الريحاني وأنَّ الأخير استطاع أن يبعث في نفسهم شيءًا من الوُجوم والحُزن الهادئ، على الرُغم من أنَّ بضعة حركات بدرت منه استحضرت «ابتسامة بريئة» على وجوه الحاضرين.
ومع ذلك، فإنَّ هُناك روايةٌ أُخرى عن هذا العرض، تقول بأنَّ الجُمهُور كان يسخر علنًا ويُطلق الضحكات بلا مُبرر. وقد تألَّم الريحاني أشد الألم من مسلك الجُمهُور، حتَّى أنَّهُ أخذ يبكي في حُجرة الملابس.
وزاد الموقف حرجًا أنَّ الفكرة الأساسيَّة قد أُسيء فهمها، حين حسب البعض أنها تسخر من مظاهر الحياة الشرقيَّة. كما انتقدها البعض الآخر لِوُجود عُيوبٍ في الإخراج وفي الأدوار الثانويَّة.
ولم يتجاوز إيراد المسرحيَّة في أُسبوعها الأوَّل 42 جُنيهًا.
ولم يكن العرض الثاني أحسن حالًا من الأوَّل، وهو ميلودراما شعريَّة لِموريس ماترلينك، بِعنوان «موناڤانا» (بالفرنسية: Monna Vanna)، من ترجمة إبراهيم المصري. ويبدو أنَّ اختيار المسرحيَّة كان مُوفقًا، فقد أحسن المُترجم نقل لُغتها الرقيقة البليغة إلى العربيَّة الفُصحى. وجاءت أحداثها العنيفة المحبوكة مُناسبة لِميلودراما تُخاطب الجُمهُور. غير أنَّ هذه المسرحيَّة لم تفز أيضًا بِإعجاب الجُمهُور، وقد صرَّح النُقَّاد بأنَّ الريحاني ارتكب أخطاءً في الإخراج.
وفي العرض التالي قدَّم الريحاني مسرحيَّةً بِعنوان «الجنَّة» التي مُثِّلت من 12 إلى 25 (نوڤمبر)، ثُمَّ أتبعها بِمسرحيَّة كوميديَّة – دراماتيكيَّة، بِعنوان «اللُصوص». ولم يُؤدِّ عرض هذه المسرحيَّة إلى تحسُّنٍ يُذكر على موقف الفرقة، وهبطت الإيرادات بِشدَّة، ممَّا اضطرَّ الريحاني إلى خفض مُرتبات المُمثلين بِنسبة 20%.
ولم ترق المُمثلة الأولى روز اليُوسُف هذا الإجراء، وبادرت بِشن أولى حملاتها العديدة على الريحاني في صحيفتها. وأخيرًا اضطرَّ الريحاني إلى وضع حدٍ لِمشروعه، وحلَّ فرقته في 29 (نوڤمبر)، بعد أربعة أسابيعٍ فقط من الافتتاح.
خرج الريحاني من هذه التجربة مُفلسًا، فقد اضطرَّ إلى اقتراض مبالغ كبيرة لِيتمكَّن من إخراج برامج جديدة لم يكن يستطيع تمويلها. وجاء في مُذكراته أنَّهُ كان مدينًا بِأربعة آلاف ومائة (4,100) جُنيه لِثمانيةٍ وعشرين شخصًا،
عندما حلَّ فرقته. وكان قد أنفق نصف المبلغ في تغطية نفقات الإخراج وحده. وهُناك عوامل أُخرى أدَّت إلى فشل هذه التجرُبة، وهي ضعف إدارته للفرقة. فبعد مُرور عدَّة أيَّام على الافتتاح، انسحب بعض المُمثلين والمُمثلات وعادوا إلى فرقة يُوسُف وهبي.
وفي ليلة الافتتاح ارتفع الستار بعد الموعد المُحدد بِساعة، لِأنَّ روز اليُوسُف كانت مُعتلَّة المزاج، ولا ترغب بالظُهور على المسرح، على حين هدَّد مُمثلٌ آخر بِترك الفرقة نهائيًّا. وقوبلت الكثير من الحفلات بالصخب والوُجوم، وكان المُشاهدون يُقاطعون العرض بالصياح والضجيج. وكانت التذاكر تُباع مرَّتين، كذلك لم يكن الإداريُّون مُتعاونين مع الريحاني.
وقد فسَّر البعض ما حدث بأنَّهُ مُؤامرة دبَّرها يُوسُف وهبي، الذي كان يخشى مُنافسة الريحاني له.
لكن يظهر بأنَّ الاحتمال الأكبر لِفشل تلك المسرحيَّات هو اعتياد الجُمهُور على الأدوار الكوميديَّة للريحاني، فلم يتقبَّله في الأدوار الجادَّة.
ولم تكن صحيفة «روز اليُوسُف» – التي كانت بطلة الفرقة تمتلكها – تُقدِّر هذه الظُروف، فانهالت هجماتها على الريحاني، وأخذت تُعدِّد مساوئه وتُبالغ في ذكر أخطائه. وقد أدَّت هذه الحملات، وما صاحبها من خيبة الأمل بِسبب فشل الريحاني في مُحاولته مع الميلودراما، إلى تحطيم معنويَّاته وتبديد أحلامه. ومُنذ ذلك الوقت، تحوَّل أُسلوب الريحاني المثالي المُجدِّد – الذي كان يتبعه في المراحل المُبكرة – إلى التهكُّم المرير. وفي الأعوام التالية، كان اهتمامه مُنصبًّا على سداد دُيونه، فكرَّس نشاطه لِإخراج مسرحيَّات مُربحة، لكنَّها كانت مُهمَّة شاقَّة في ذلك الوقت، بِسبب ظُروف المسرح الصعبة آنذاك. ففي أواخر عقد العشرينيَّات أخذ النشاط المسرحي يتقهقر بِصُورةٍ خطيرة،
فقد بدأ الجُمهُور يفقد اهتمامه بالمسرح، لانصرافه إلى مجالاتٍ أُخرى للتسلية. ففقد يُوسُف وهبي – مثلًا – نسبةً كبيرةً من جُمهُوره على أثر الزيارات المُتتابعة لِلفرق الأجنبيَّة.
وفي سنة 1925م، قامت أوَّل مُحاولة مُنظمة لِإنتاج فيلم مصري، وأبدى الجُمهُور تحمُّسه لِلأفلام الصَّامتة، كفيلم «ليلى». وقد صادفت الأفلام الأمريكيَّة إقبالًا جماهيريًّا، واجتذبت هي والأفلام المصريَّة نسبةً كبيرةً من جُمهُور المسرح. كذلك أقبل الجُمهُور على عُروض الصالات الموسيقيَّة، لِما كانت توفره لِلمُتفرِّج من مُتعةٍ سهلةٍ مُتنوِّعة، فصالة بديعة مصابني على سبيل المثال كانت تُقدِّم للحُضور مقاطع تمثيليَّة وغنائيَّة وعُروض رقص شرقي وغناء شرقي ومُوسيقى التخت، فكانت بهذا أشد روعة من عُروض المسرح الكوميدي. لِهذا، أقدم الريحاني – عندما عاد إلى الكوميديا – على حشد العناصر الموسيقيَّة في مسرحيَّاته. ولم تكن هذه المسرحيَّات – في بداية الأمر – تختلف كثيرًا عن مسرحيَّات «الأبيه دي روز» القصيرة، فقد كانت تدور حول «كشكش بك» وسائر الشخصيَّات النمطيَّة المألوفة، وتُعالج نفس الموضوعات، وتستخدم نفس التقنيَّات. وأخذ الريحاني يتنقَّل – دونما هدف فنِّي مُحدَّد – من استعراضات كشكش إلى أوپريتات من «ألف ليلة وليلة» وفارسات فرنسيَّة مُقتبسة. لكن خطّ النُمو بزغ مرَّة أُخرى – في أواخر هذه الفترة، عندما اتجه الريحاني إلى تصوير مُجتمع المدينة بِمزيدٍ من الواقعيَّة والنقد اللاذع.
عودته لكشكش بيه
عاد الريحاني إلى مسرحيَّات «كشكش» في أوَّل الموسم الجديد، وكوَّن فرقةً جديدةً ضمَّ إليها طائفةً من ألمع مُمثلي الفارس، أمثال: حُسين إبراهيم، وألفرد حدَّاد، وعبدُ الفتَّاح القصري، وجُبران نعُّوم، وعبدُ النبيّ مُحمَّد، ومُحمَّد التوني، وسيِّد مُصطفى، ومُحمَّد كمال المصري الذي اشتهر باسم «شرفنطح». كذلك استعان الريحاني بِراقصةٍ يونانيَّةٍ جميلة تُسمَّى «كيكي»، واتفق مع صاحبة ملهى «كازينو دي پاري» واسمها «مارسيل لانجلوا» لِتمدُّه بِفرقة راقصات أوروپيَّات
ثُمَّ شرع الريحاني – بالاشتراك مع خيري – في إعداد مسرحيَّات جديدة، تدلُّ على دراسةٍ نفسيَّةٍ للجُمهُور، والتعرُّف على النواحي التي تنال إعجابه وتبلغ موضع الرضا منه
وفي أوَّل شهر (فبراير) 1927م، افتتحت الفرقة الجديدة موسمها باستعراضٍ فرانكوعربي بِعنوان «ليلة جنان»، الذي تلاهُ استعراض «مملكة الحُب» في 7 (مارس)، ثُمَّ «الحُظوظ» في (أبريل). وقد أحسن الجُمهُور استقبال هذه المسرحيَّات. وعلى الرُغم من ارتفاع أثمان التذاكر، فإنَّ المسرح كان يمتلئ بالمُشاهدين في كُل ليلة (ومُعظمهم من الأوروپيين والمصريين الأثرياء)، ليس فقط من أجل مُشاهدة «كشكش بك» – الذي كان لا يزالُ مُحتفظًا بِشعبيَّته – بل لِيستمتعوا أيضًا بِمُشاهدة العُروض الراقصة. وعقب انتهاء الموسم الأوَّل، قام الريحاني وفرقته بِرحلةٍ إلى بعض المصايف. لكنَّ وفاة الزعيم سعد زغلول باشا في شهر أغسطس) 1927م جعل الكثيرين يعودون إلى القاهرة لِلمُشاركة في تشييعه. وقد تمكَّن الريحاني من مُواصلة عُروضه الصيفيَّة، إلَّا أنَّ إيراداته استمرَّت في الهُبوط.
وفي شهر نوڤمبر) من نفس السنة، قدَّم لهُ أمين صدقي «فارس – كوميدي» بِعنوان «يوم القيامة»،
لِيفتتح بها الموسم الشتوي. لكنَّ الريحاني اضطرَّ إلى استبدال مسرحيَّة قديمة بها، حتَّى يتمكن هو وخيري من كتابة مسرحيَّة جديدة، جاءت بِعنوان «عشان بوسة»، التي مُثِّلت في 3 (ديسمبر) 1927م المُوافق فيه 9 جُمادى الآخرة 1346هـ، وحقَّقت نجاحًا عظيمًا.
وقد تلتها مسرحيَّتان من لون الفارس هُما: «آه من النسوان!» التي مُثِّلت خلال شهر فبراير1928م، و«ابقى اغمزني» التي مُثِّلت في شهر (أبريل) 1928م. وبعد انتهاء هذا الموسم، وبرُغم ما حلَّ بالريحاني من إرهاق، فإنَّهُ لم يستطع البقاء فترة الصيف بلا عمل كونه كان في أشد الحاجة إلى النُقود. وسُرعان ما انتقل بِفرقته إلى مسرحٍ مكشوفٍ بِالجيزة، وهو مسرح «الفانتازيو»، حيثُ كان يُوجد مقهى، يستطيع فيه المُتفرجون مُشاهدة مسرحيَّات الريحاني الطويلة بِثمن كوب جعَّة، كما يستطيعون – في أثناء الاستراحة – الرقص على أنغام فرقة الجاز
. ولم تكن هذه الظُروف لِتجعل من «الفانتازيو» مسرحًا مثاليًّا، إلَّا أنَّها ساهمت في إنجاح هذه المسرحيَّات
وفي مُنتصف شهر (يوليو)، انتهى عقد الريحاني بِمسرح «الفانتازيو»، فتعاقد مع مسرح صيفي بالإسكندريَّة. وفي أثناء إقامته بها، توسَّط أصدقاؤه لِإعادة العلاقة بينه وبين بديعة، فقبل كونه كان واثقًا من أنَّ وُجود بديعة بِفرقته سيكون خير سندٍ لها. ذلك أنَّ «كيكي» لم تكن قادرة على شغل الفراغ الذي تركته بديعة، ومن ثُمَّ كان الريحاني في أشد الحاجة إلى بطلةٍ لِفرقته. ولا شكَّ في أنَّهُ كان لا يزال يُحب بديعة. وفي المسرحيَّة التالية حاملة عنوان «ياسمينة»، التي أخرجها في نهاية سنة 1928م، ظهرت معهُ بديعة كزوجةٍ وفيَّةٍ مُخلصة،
وحقَّقت المسرحيَّة نجاحًا عظيمًا، وأثنى عليها النُقَّاد نظرًا لِتعاون الريحاني مع بديعة، ولِروعة ملابسها وتصاميمها.
وفي ذلك الوقت، صرَّح الريحاني بأنَّ لديه ما يكفيه من أوپريتات لِفترة من الزمن، واستطاع إقناع بديعة بأن تُمثِّل في كوميديا خفيفة بِعنوان «أنا وأنت»، التي أخرجها في شهر (يناير) 1929م.
وفي شهر فبراير)، مثَّلت الفرقة بعد انتهاء عرض «أنا وأنت» مسرحيَّة أكثر أهميَّة، بِعنوان «علشان سواد عنيها»، وهي تتناول موضوعًا أخلاقيًّا في إطارٍ هزلي، ولم تظهر فيها شخصيَّة «كشكش».
لكنَّ الريحاني عاد مرَّة أُخرى – في عرضه التالي في شهر مايو) – إلى تهريجيَّة «كشكش»، وهو استعراضٌ بِعنوان «مصر في 1929»، سلَّط فيه الأضواء بِقوَّة على موضوع التفرنُج، مُستوحيًا من الأحداث التي وقعت في أفغانستان في نفس السنة، عندما طُرد ملُكها أمان الله خان لِمُحاولته فرنجة البلاد.
وقد اختتم الريحاني موسمه بِمسرحيَّة «القاهرة 1929»، وبها أيضًا، انقطعت علاقة بديعة بِفرقة الريحاني. فقد دبَّ الشجار بينهما، وعادت بديعة إلى صالتها. ولمَّا كان طلاقهما مُستحيلًا، لِأنَّهُما يُدينان بالمسيحيَّة الكاثوليكيَّة،
فقد انفصلا مدنيًّا، وظلَّا مُنفصلين مُنذ ذلك التاريخ.
وقد ضاعف هذا الموقف من إحساس الريحاني بِالمرارة، غير أنَّهُ تمكَّن من سداد دُيونه القديمة.
وفي موسم الصيف، تشعَّب نشاط الريحاني بين مسرح «الفانتازيو» المكشوف والإسكندريَّة. وفي نهاية الصيف، أُصيب بإرهاقٍ شديد، فقرَّر القيام بِإجازةٍ صغيرةٍ قبل بداية الموسم الجديد، واضطرَّ معها إلى اقتراض ثلاثين جُنيهًا.
وقد ضاعف هذا الموقف من إحساس الريحاني بِالمرارة، غير أنَّهُ تمكَّن من سداد دُيونه القديمة. وجاءت المسرحية الجديدة – وهي أوپريت «نجمة الصباح» – كما لو كانت تحديًا لِبديعة. ويقول الريحاني في مُذكراته، إنَّهُ قرَّر إخراج أوپريت أُخرى لأنَّ البعض نصحهُ بِالإكثار من العناصر الموسيقيَّة في مسرحيَّاته.
ورُبما أراد الريحاني أن يُبرهن لِبديعة أنَّهُ يستطيع العمل بدونها، ولم تكن المُطربة التي استعان بها – واسمها هُدى قصبجي – قادرة على مُنافسة بديعة، برُغم جمالها وخفَّة ظلِّها. وكان دورها شبيهًا بِدور بديعة في الأوپريتات السَّابقة.
وفي الموسمين التاليين، عاد الريحاني وهو مُمتلئ تحمُسًا إلى إخراج الفارسات والاستعراضات
. وقد مُثِّلت أوَّلُها في شهر ديسمبر) من تلك السنة، وهي فارس بِعنوان «اتبحبح»، ويقول الريحاني في مُذكراته إنَّها أوَّل اقتباسٍ له عن الفرنسيَّة.
وفي فبراير) 1930م، أتبعها الريحاني بِأوپريت «ليلة نغنغة». ثُمَّ باستعراضٍ مكتوبٍ بِتعجُّل، بِعنوان «القاهرة، باريس، نيويورك»، الذي مُثِّل في شهر
مارس). وقد فُقد نصَّا المسرحيتين، وذكر الريحاني ما يُفيد بأنَّ ضياعهما لا يُمثلُ خسارة تُذكر كونهما «أتفه الابتكارات البشريَّة» على حد قوله.
وفي شهر (مايو) 1930م، انتهى الموسم المسرحي، فاصطحب الريحاني فرقته في رحلةٍ إلى سوريا ولُبنان وفلسطين. لكنَّهُ لم يظفر من رحلته بما كان يؤمله من نجاحٍ ماديٍّ، فقد ظلَّ أمين عطا الله يحتكر شعبيَّة «كشكش» في البلاد الشَّاميَّة، ولِهذا استُقبل الريحاني هُناك بِفُتور. وفي نفس الوقت استطاع المُتعهِّد أن يختلس نسبةً كبيرةً من الأرباح. من أجل ذلك وافق الريحاني على تمثيل فيلم عن «كشكش» بعد عودته إلى القاهرة في (سپتمبر). والفيلم بِعنوان «صاحب السعادة كشكش بك»، الذي ارتجلهُ الريحاني ارتجالًا.
وفي خلال موسم 1930 – 31، أخرج الريحاني ثلاث فارساتٍ مُضحكة أوَّلها: «أموت في كده»، وقد مُثِّلت في 6 (نوڤمبر) 1930م، والثانية «عبَّاسيَّة»، في (نوڤمبر)، والثالثة «حاجة حلوة» في فبراير) 1931م. وفي تلك المرحلة، أصبح مفهوم فارسات الريحاني وتقنيَّاتُها، أشد عُمقًا عنهُ في فارسات المرحلة المُبكرة. فقد تفوَّقت على تلك الأخيرة في تصويرها الواقعي.
للشخصيَّات، كما اشتملت على قسمات أكثر وُضوحًا من الكوميديا الحقيقيَّة، ويُحتمل أنَّ السبب وراء ذلك كان تجارب الريحاني المريرة وإحساسه بالألم والخيبة أكثر من مرَّة، فعكس هذا الأمر في مسرحيَّاته، حتَّى أصبحت الفارسات المُتشائمة عنده ضربًا من الهُروب النفسي، وأصبح التهكُّم – وليس المرح – يُسيطرُ على فنِّه، وجعلتهُ النظرة السَّاخرة بالجُمهُور يستغل مرارًا هذا النوع من المسرحيَّات الذي يسهل فيه النجاح التجاري، حتَّى قيل أنَّهُ عند هذه النُقطة، كانت رؤياه الكوميديَّة كفنَّان تزداد نُضجًا.
شهيرة النجار